ين عدالتي الأسعار والدخول في دراسة لـ(مداد)
أعد مركز دمشق للأبحاث والدراسات (مداد) دراسة حول واقع الأسعار وعدالتها وتناسبها مع الدخول وقدم لهذه الدراسة بأن قضية تكاليف العيش وقدرة المواطنين على الصمود باتت الشغل الشاغل للمجتمع السوريّ، وخاصّةٍ في ظلِّ الانفلات الأخير لأسعار السلع الرئيسة التي تشكّل سلة الاستهلاك اليومي للمواطنين. هذا الانفلات ترافق مع دوامة من الجدل الدائر حول عدالة أسعار السلع في السوق ومدى ملاءَمتها مع دخول المواطنين من جهة، وموازاتها مع أسعار السلع نفسها في الأسواق العالمية والإقليمية.
ورأت الدراسة أن الاقتصاد السوري يمر حالياً بأزمتين حادتين: الأولى، تتجلى في استمرار تداعيات ومفاعيل الحرب التي أدت إلى تضرر المؤشرات الاقتصادية كافةً، وتحديداً تلك المرتبطة بالإنتاج والتشغيل، وخلق فرص العمل، ومحدودية المقدرة على زيادة الدخول، والقوة الشرائية لليرة السورية.
والثانية: تتمثل في أزمة (كورونا) وما رافقها من انخفاض في معدلات تشغيل واستثمار مكامن الإنتاج وارتفاع في معدلات البطالة، وبالتالي تضرر مصادر الدخل لشريحة واسعة من المواطنين.
وبينت الدراسة وجود تساؤلات عديدة تستدعي الإجابة عنها لمعرفة مكامن الخلل والانطلاق منها لمعالجات مستدامة تكون مكمّلاً للتدخلات الآنية الضرورية ومحدودة الجدوى والتأثير في الوقت نفسه, ذلك على المديين المتوسط والبعيد ,من هذه التساؤلات : هل مشكلة تدهور مستويات العيش ناجمة عن عدم عدالة الأسعار، أم عن ضعف الدخول وخاصّة تلك المتأتية عن العمل؟ وماذا يمكن أن تقدم الحكومة وتتخذ من إجراءات غير تلك المتخذة لتخفيف وطأة اضطرابات السوق على مستويات المعيشة؟ وهل تتم إدارة السوق الداخلية بكفاءة وحزمة متكاملة من الآليات وأدوات العمل، أم إن هناك انتقائية غير كافية لبعض التدخلات وإغفالاً لأخرى؟ وأيضاً هل تقع إدارة وضبط السوق المحلية على عاتق وزارة معينة، أم هما مسؤولية تشاركية لأكثر من وزارة وجهة؟
وهنا أشارت الدراسة أن اللوم الأكبر للمواطنين ومعهم جزء كبير من الباحثين انصب على آليات وجدوى عمل وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، كجهة وطنية معنيّة بالرقابة على الأسواق وضمان المنافسة النوعية ومنع الاحتكار، متناسين أنَّ المنافسة تضمن عدالة الأسعار بالنسبة للمنتجين (والتي باعتقادنا لا تزال غير واضحة المعالم من حيث بنود التكلفة) من جهة، و من جهة أخرى هناك ظروف الاستيراد في ظلِّ الإجراءات القسرية والعقوبات على التعاملات الاقتصادية الخارجية لسورية وما تؤثر فيه من ارتفاع تكاليف الاستيراد، وبالتالي أسعار السلع المستوردة. و(نحن هنا لسنا في معرض الدفاع أو تقييم عمل الوزارة)، ولكن في الواقع هناك حقائق أبعد من مهام وقدرة الوزارة على العمل والتحكم يجب أن تؤخذ بالحسبان
أولاً _توازنات كلية
حيث تعتمد إدارة وتوجيه الأسعار على المقدرة على التنبؤ المستقبلي بمُحَدِّدَيها الرئيسين وهما: الإنتاج والطلب، على افتراض المقدرة على التحكم بعاملي الاحتكار والتهريب اللذين يجب التعامل معهما بحزم ووفق إجراءات رادعة، ويُعد هذا التنبؤ العامل الأهم الذي يوفر آليات وقائية استباقية، بدلاً من التدخلات العلاجية التي تتم حالياً والتي تقوم على تدخلات وقت وقوع المشكلة (ارتفاعات غير مبررة للأسعار) أو في معرض المتابعة اليومية لأسعار السلع.
توازن الإنتاج والطلب (احتياجات السوق المحلية)
يُعَدُّ مسؤولية مشتركة بين وزارات: الزراعة والصناعة (جهات الإنتاج) ووزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك مع المكتب المركزي للإحصاء (تقديرات الطلب والاحتياج). تعتمد تقديرات الإنتاج للسلع الأساسية، وخاصّة الغذائية، على ما توفره وزارتا الزراعة والصناعة من بيانات ليست إجمالية فقط، فضمان تدفق السلع إلى السوق والتنبؤ بالاختناقات يستدعي توفير بيانات شهرية. وتعتمد تقديرات الحاجة والطلب المتوقّع على مفردات وكميات السلع في سلة المستهلك المحددة وفق النمط الاستهلاكيّ للمواطنين من قبل المكتب المركزي للإحصاء، لكل مادة من المواد الرئيسة وفق أعداد السكان.
هذا بالنسبة لسلع الإنتاج المحليّ، أمّا السلع المستوردة فتقوم على تغطية الفجوة بين محدِّدي الإنتاج والطلب المتوقع. وهو عمل تشاركي بين وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك ووزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية والمكتب المركزي للإحصاء.
توازن أسعار المنتج وأسعار المستهلك
تشهد السوق السورية فارقاً كبيراً بين أسعار بيع المنتجين وأسعار الشراء للمستهلكين، ينتج هذا الفارق من: ارتفاع تكاليف النقل و الفواقد الناجمة عن سوء التوضيب والتخزين المؤقت.
لدى مقارنة أسعار السلع الرئيسة بين الأسواق السورية وأسواق الدول المجاورة يتبين أن أسعار السلع المنتجة محلياً تعد أقلّ من أسعارها في أسواق الدول المجاورة. أما أسعار السلع الرئيسة المستوردة فبمعظمها أعلى في الأسواقالسورية من أسواق الدول المجاورة، وهذا ناجم بصورة أساسية عن الشراء في ظل ظروف غير طبيعية متأثرة بإجراءات قسريّة مفروضة على التعاملات الاقتصادية، وانخفاض القوة الشرائية لليرة السورية. وإنَّ المشكلة الرئيسة في هذه الحالة التي تؤثر في مستوى المعيشة هي ضعف الدخول ,تحديداً تلك الناجمة عن العمل والتي تشكل حوالي 70% من مصادر الدخل للمواطنين (العاملين بأجر) فهي منخفضة جداً بالمقارنة مع كل من تكاليف المعيشة. ويُعَدُّ صحيحاً أنَّ الأسعار قريبة وحتى أدنى من أسواق الدول المجاورة، إلا أنَّ الدخول فيها فارق كبير، ويتّضح مستوى ضعف الرواتب في سورية، بإجراء مقارنة بسيطة بين مستوى رواتب موظفي القطاع العام في سورية، مع دول الجوار (لبنان، الأردن، العراق)، مقوّمة بالدولار الأمريكي، باعتماد أسعار الصرف الرسمية، لتوحيد المعيار، وعزل تأثير عامل سعر الصرف غير الرسمي (لغايات المقارنة بالنسب فقط).
ويبلغ الحدّ الأدنى للرواتب في سورية 47.675 ليرة سورية، تعادل 108.85 دولاراً أمريكياً، على أساس سعر الصرف الرسمي، 438 ليرة للدولار، ويبلغ الحدّ الأعلى 80.240 ليرة سورية، تعادل 183.2 دولاراً، والذي هو سقف أساس راتب الفئة الأولى، من دون التعويضات.
وبحسب معطيات وسطي صافي الرواتب التي يوفرها موقع «نومبيو» ، يبلغ وسطي صافي الراتب في لبنان 1.442.740 ليرة لبنانية، تعادل 952.39 دولاراً أمريكياً على أساس سعر الصرف الرسمي، وبالتالي، يزيد بنسبة 774.96% عن الحدّ الأدنى لراتب موظف القطاع العام في سورية، وبنسبة 419.86% عن الحدّ الأعلى. ويبلغ وسطي صافي الراتب في الأردن 462.39 ديناراً، تعادل 652.18 دولاراً، وبالتالي يزيد بنسبة 499.15% عن الحدّ الأدنى في سورية، و255.99% عن الحدّ الأعلى، في حين يبلغ وسطي الراتب الصافي في العراق، 707.348 ديناراً، تعادل 591.48 دولاراً، بزيادة نسبتها 443.39% عن الحدّ الأدنى في سورية، و222.86% عن الحدّ الأعلى.
ثانياً- مقترحات على المدى القصير
من المقترحات التي قدمتها الدراسة على المدى القصير تحقيق استقرار الإمداد للأسواق الداخليّة بوساطة مجموعة من الإجراءات وهي: وضع برنامج للتنبؤ بحالة الأسواق المحليّة بهدف معرفة حجم وتوقيت النقص المحتمل لبعض السلع الرئيسة، والعمل على ترميم النقص والفجوات بين العرض والطلب لبعض السلع الرئيسة بوساطة تأمينها من الأسواق المجاورة، وفق برنامج زمني دقيق يراعي موسمية بعض المنتجات وتخفيف القيود التي تعوق أو تؤخر تأمين المادة. وتخزين المنتجات وتنظيم إمداد السوق بها ضماناً لعدم حصول عجزٍ يؤدي إلى ارتفاع الأسعار فتؤثر في المستهلكين، أو فائضٍ يؤدي إلى انخفاض الأسعار ويؤثر في عدالتها بالنسبة للمزارعين والمنتجين. بحيث تلعب الوزارة دور صانع السوق (Market Maker) يعني مشترياً عند الفائض وبائعاً عند النقص. وأيضاً العمل على كسر الحلقات الوسيطة، والتي بنتيجتها تتضاعف أسعار السلع بشكل كبير، وذلك عن طريق تدخل الدولة كحلقة تسويق وسيطة مباشرة. وتأتي فكرة الأسواق الشعبية المنظمة والتي تمكن الفلاح من بيع منتجاته بشكل مباشر للمستهلك في هذا السياق. والاستفادة من مبدأ عمل العقود الآجلة، وتطبيقه على التعاقدات مع المزارعين للمحاصيل الرئيسة، بما يضمن ضبط هوامش التقلبات السعرية خلال مدة عام تقريباً، وذلك وفق الخطوات الآتية: تكليف من يلزم بمهمة تقدير احتياجات القطر الاستهلاكية من المنتجات الزراعية الرئيسة، بالاستفادة من بيانات السوق (أسواق الهال في المحافظات)، وبيانات البطاقة الذكية، وبيانات وزارة الزراعة، واتحاد غرف الزراعة، واتحاد الفلاحيين، بما يضمن توفير العرض اللازم لتحقيق التوازن مع الطلب.
وتصميم نموذج لعقود آجلة، بين الحكومة، ممثلة بوزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك من جهة، وبين المزارع من جهة ثانية، يتضمن توفير كمية محددة من المحصول، بحسب ما يزرعه المتعاقد، بسعر محدّد سلفاً عند موعد الزراعة أو قبلها، بشرط أن تضمن الحكومة تأمين احتياجاته من السماد والبذار والمشتقات النفطية بأسعار مدعومة، مع تحديد هوامش لتغير السعر بناءً على التغيرات الطارئة التي قد تحدث وتؤثر في السعر، علماً بأن الأسمدة والبذار يتم تأمينهما بسعر صرف رسمي، عبر مؤسسات الحكومة، ويجب أن تعطى الأولوية بالتمويل لارتباطها بالأمن الغذائي. وتحدد الجهة المعنية وخاصة وزارة الاقتصاد المنتجات القابلة للتصدير والكميات التي يمكن تصديرها، من المنتجات غير القابلة للتصدير، بما لا يؤثر سلباً في العرض والأسعار. ويتعهد المزارع بتسليم الحكومة الكميات المتعاقد عليها حصراً، مع مراعاة حدوث تقلبات في الطقس تضر بالإنتاج.
كما وتستلم وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك الكميات المتعاقد عليها، كما تستلم موسم القمح وتوزعه على صالات السورية للتجارة في كل محافظة، أو على الأسواق الشعبية، وعبر نقاط بيع تابعة لها، بحيث يتم توسيع تجربة معتمدي الخبز لتشمل المنتجات الزراعية، مع تحديد هامش ربح، ومنح تسهيلات للمعتمدين. و يمنح المزارعون المتعاقدون مع الحكومة بهذا النمط ميزات في تعاملاتهم مع المصرف الزراعي وبتأمين البذار والسماد. وتحلّ هذه التعاقدات مشكلات الخلل في التخطيط الزراعي، من خلال رسم خريطة جديد لاحتياجات القطر الزراعية، وترتيب الأولويات بالمنتجات والمساحات المزروعة، منعاً لحدوث فوائض غير مرغوبة وغير قابلة للتصدير، كما الحمضيات والشعير.
تشرين