بداية القابضة

رئيس التحرير : عبد الفتاح العوض

رئيس مجلس الإدارة : د. صباح هاشم

من نحن اتصل بنا
أجنحة الشام

عذرًا أيها المجتمع المؤمن!

الثلاثاء 30-05-2017 - نشر 7 سنة - 5696 قراءة

تلك اللحظات السعيدة التي كنت أشعر بها وتتملك روحي منذ ما يقرب من 4 سنوات، أكاد أشعر بتلك اللذة أو أشم رائحتها والتي تبيّن لي أنها كانت لذة زائفة بعد ذلك، أو قد تكون صادقة، ولكنها تمثّل لي الآن لذة أليمة أو ألمًا لذيذًا. حينما كنت أصلي التراويح إمامًا بأهل قريتنا وأطيل الدعاء والسجود والبكاء في رمضان، عندما أكون في إجازة من العمل وأكون في البلدة، كنت دائمًا عندما أذهب لأداء الصلاة في رمضان يقدمونني للصلاة. وأكاد أسمع صوت بكاء المصلين خلفي في الدعاء وأكاد أشعر بحشرجة صدورهم من الألم وتأنيب الضمير على كل ذنب يتذكرونه من دعائي. كانوا حقًا مجتمعًا صغيرًا طيبًا متدينًا بكّاءً مُشفقًا من ذنوبه مُقبلًا على ربه.

ولكنني اكتشفت أنني كنت حبيس مجتمعي الموهوم، حين كنت أسمع بنفس الأذن صوت نفس الشخص الذي يبكي في الصلاة يسب ويغتاب وينافق ويُكفّر ويدخل من شاء الجنة ويدخل من لا يعجبه النار، تلك الحالة من الازدواجية في الشخصية، يبكي في صلاته ويعطيك تمرات الإفطار وفي اللحظة التي تتعارض فيها مصلحة أي شخص معه ولو كان العالم بأكمله، عندها فليذهب العالم إلى الجحيم، هو نفس المجتمع الذي يشاهد الراقصات والممثلين بكل رضا وأريحية وإذا صدر منك أي خطأ أو هفوة تنهال عليك اللعنات من ملائكة ترفرف بأجنحتها في فضاء الفضيلة والأخلاق وتلعنك أنت الشيطان المخطئ، كيف تخطئ في وسط ملائكة لا يخطئون! ألا يعلم هذا المجتمع الفاضل كيف تعامل النبي – صلى الله عليه وسلم – مع الشخص الذي بال في المسجد، ولو تركه لمثل هذا المجتمع لكان أول الكافرين.

شخص يُدعى (ك ع) قابلته مرة واحدة في حياتي حضرت له محاضرة ضمن برنامج تدريبي منذ عدة سنوات، كان ممن يدعون إلى الإسلام ويجتهدون في الطاعة والدعوة، وبعد طول بحث في المسيحية قرر أن يتنصّر، فما كان من أقاربه وأهله إلا أنهم أهدروا دمه علانية أمام الناس، وأن في قتله نصرة للإسلام وطاعة لله، ففر هاربًا خارج البلاد وبعد فترة طويلة راسلته ليتحدث إليّ عن تجربته، وأخبرته أنني أبحث منذ أكثر من عام في الاتجاهات الدينية المختلفة وأدوّن تجاربي وأفكاري وأنشر بعضها، وظللنا نتحدث حوالي ساعتين. أستمع فيها إلى ما مرّ به في رحلته التي وصل فيها إلى تلك النقطة، وتلك الرحلة التي لم تنتهِ بعد، والتي يمكن إيجازها في أنه كان حبيس إطار ما فلما نظر وامتلأ قلبه وعقله بتجربة أخرى أشبعت روحه فترك للمجتمع كلامه واتبع صوت قلبه، والذي قد يكون على خطأ أو على وهم، ولكنه منح نفسه فرصة للتحرر من قيد مجتمعه الذي لم ولن يكف عن الحكم عليه وفرض الوصاية وإدخاله الجنة أو النار حسب مدى قبولهم.

أتذكر كلمات قالها أحد أصدقائي ذات مرة، أن قلبه كان حقًا مُعلّقًا بالمساجد وهو طفل صغير، حتى أتى رجل طيب وملاك يرفرف في سماء الدين فوجده قد وضع يده اليسرى على اليمنى، فجاء من أمامه وأمسك ذراعيه بقوة وعنف ووضع اليمنى على اليسرى، ففر صديقي هاربًا من المسجد من يومها، ولا أظنّه عاد إليه إلا في الجُمَع والأعياد.

ذلك الطالب (ع) النجيب الذي كانت تجمعني به علاقة طيبة، والذي كان الحزن يملؤه وكادت الحياة أن تضنّ عليه بالمزيد من الأنفاس والتبسّم، كان يعيش في حيرة لم يجد من يستمع إليه أو يقبله، فترك الإسلام لمدة عام إلى المسيحية ثم ترك الانتماء إلى أي دين ولا يزال في فترة يبحث فيها عن قلبه.

ماريا، تلك الفتاة العشرينية الروسية التي قابلتها منذ سنوات صدفة أثناء العمل، وقد كانت ابنة لأبوين مسيحيين فتركت المسيحية وبدأت تقرأ في عدة أديان وتبحث، ثم تبنّت مبدأ حياتيًا تعيش به يتكون من شِقين، أن تعيش تحاول أن تستمتع بالحياة وتخوض تجارب، وأن تعيش تحاول ألا تؤذي أي شخص بأي شيء لأي سبب، ذلك المبدأ في بساطته والذي يغيب عنك أيها المجتمع المؤمن عندما تصب غضبك على من يتعارض مع مصلحتك الشخصية.

هناك فارق كبير بين المجتمع الذي يدعم ويدفع إلى الاختيار ومن ثم إلى القبول والوصول إلى الحق أو حتى الاقتراب من الحق، وبين المجتمع الذي يُنصّب نفسه حاكمًا على أفعال العباد، أو حامي حمى الذات الإلهية، بل يظن في نفسه الإله ذاته، ألم تره يدخل من يشاء الجنة ويدخل من يشاء النار! أو لا يرى هذا المجتمع الفاضل أنه مؤمن فقط لأنه لم يتعرض لما تعرّض له ذلك الذي يراه هالكًا أو كافرًا أو فاسقًا، أو لا يدرك أنه متدين فقط حتى تأتيه العاهرة، أو لا يعلم أنه أضعف وأصغر من أن يجزم بوجود الحق هنا أو هناك، ولكن الحياة القصيرة التي نعيشها سنظل نبحث وقد نصل وقد لا نصل، فمن ذا الذي يزعم أنه قد وصل وارتفع ورأى وهو لا يزال بين الأحياء التائهين الباحثين.

عذرًا أيها المجتمع المؤمن، فلن أستطيع أن أرضيك لأنك لم ولن ترضى، ولن أصلّي على طريقتك التي تنهر فيها طفلًا صغيرًا قد يكون أقرب إلى ربه منك لمجرد أنه لم يضع يديه بالطريقة التي تراها صحيحة، ولن أصوم على طريقتك التي تبرر لنفسك فيها التكاسل في عملك بحجة صيامك وتشعر أنك العابد الورع لأنك تحمّلت الجوع والعطش ولا تشعر بأي ذنب لأنك قصّرت في عملك وأخذت أموالًا لا تستحقها، أو توهم نفسك أنه لكونك صائمًا عابدًا ورعًا فمن حقك أن تسب وتشتم الكبير والصغير وعليهم أن يتحملوك لأنك صائم عابد ورع، ولن أحجّ على طريقتك التي تنفق فيها الآلاف كل عام على الحجة الثانية والثالثة والعاشرة لتكون الحاجّ فلانًا وليهلك من هلك من الجوع والمرض وتبكي هناك من أجلهم بينما تبخل بأموالك عليهم!

عذرًا أيها المجتمع المؤمن، فلن أستطيع أن أتعايش مع كونك ورّثتني دينًا لم أختره بنفسي، وتحاسبني أشد الحساب وتبغضني أشد البغض وتكفّرني وتدخلني الجنة أو النار فقط إذا سألت عمّا منعت أنت السؤال عنه، فما بالك إن تركته؟ وكيف يترك المرء ما لم يأخذ أصلًا؟! فإذا كان لديك دعم حقيقي لأبنائك فلتفعل، هذا الدعم يكون بالقبول، وعدم

التكفير، وبالعلم، والعقل، والمنطق، والتواضع للحق، والتواضع للخلق، والنصيحة الخالصة، والسعي من أجل الفهم، والتخلّي عن الإله الذي خلقته أنت لنفسك والذي يشرّع لك وحدك واللجوء إلى الإله الحق الذي قد لا يضع مصلحتك فوق مصلحة الجميع.

وإلا فلتتركهم يتخلّوا عمّا ورثوه ويبحثوا، ويضلوا، ويهتدوا، ويبحثوا، ويصِلوا، أو قد لا يصِلون، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة.

يقول توماس مرتون: إذا وجدت الله بسهولة عظيمة، فربما لا يكون الذي وجدته هو الله!

ساسه بوست


أخبار ذات صلة

تأثير التعليم على الفيزيولوجيا

تأثير التعليم على الفيزيولوجيا

إشراف.. الأستاذ الدكتور رشاد محمد ثابت مراد

المايسترو ميساك باغبودريان:

المايسترو ميساك باغبودريان:

من المحزن عدم وجود أي برنامج يتحدث عن الموسيقا في قنواتنا التلفزيونية