وصفة «مداد» لتصويب مسار الاقتصاد والسياسة الاقتصادية في سورية
سلّط مركز دمشق للأبحاث والدراسات الضوء على السياسة الاقتصادية من حيث الوصف والتحليل وتقديم المقترحات لتصويب مسار السياسة الاقتصادية، وذلك بنشر «ورقة سياسات» بعنوان «استحقاقات برسم التصويب في مسار الاقتصاد والسياسة الاقتصادية في سورية» نفذها الاقتصادي الأكاديمي الدكتور مدين علي.
واستهلت الورقة (حصلت «الوطن» على نسخة منها) بالإشارة إلى النقاش الاقتصادي الذي انفتح مؤخراً بقوة في الوسط الأكاديمي، وفي أوساط أخرى سياسية وإعلامية ونقابية، متناولاً القضايا المتعلقة بتكاليف المعيشة، والفجوة القائمة بين الدخل والاستهلاك التي تتسع في كل يوم مع الارتفاعات المستمرة والمتواصلة في المستوى العام للأسعار، من كل ذلك إلى النقاش المتعلق بمؤشرات عديدة ذات صلة مباشرة بنوعية حياة الإنسان في سورية، التي شهدت طوال سنوات الحرب تراجعاً دراماتيكياً، جراء التراجع الكبير في المداخيل الحقيقية هذا من جانب، وجراء سيطرة حالة من الفوضى الاقتصادية على السوق، ذلك في ظل غيابٍ ملحوظ للأجهزة الاقتصادية المتخصصة من جانبٍ آخر، ما جعل صناع السياسة الاقتصادية وأصحاب القرار، أمام امتحان صعب، ومحنة كبيرة، لجهة ما يتعلق بالهامش المُتاح لديهم، وبالتالي لجهة ما يتعلق بقدرتهم على صياغة سياسة اقتصادية متوازنة، يمكنها الجمع والتوليف، بين متناقضات بنيوية مركبة، قادرة على ردم الفجوة بين الدخل والاستهلاك، أو تضييقها على الأقل ما أمكن، في ظل ظروف سياسية واقتصادية وأمنية، غير مستقرة، وبالغة التعقيد.
وبيّنت الورقة أنه في الوقت الذي استسلمت فيه الحكومات المتعاقبة طوال سنوات الحرب للواقع، واستمرت في رهان الاعتماد على المساعدات والتسهيلات أو على الخدمات التي قدمها أفراد، أو تلك التي جاءت في سياق شبكة مصالح معقدة، شابها الكثير من الفساد والبراغماتية الانتهازية والابتزاز الرخيص للدولة، التي لم يعد لديها الهامش الكافي للضغط والمساومة، وقد جاء كل ذلك في سياق تشكل اقتصاد توسّع حتى تجاوز بحسب بعض التقديرات حدود الـ(60بالمئة) من حجم العمليات على مستوى الاقتصاد السوري.
وأوضحت أنه لم يمض إلا وقت قصير، لنجد أنفسنا في مواجهة استحقاقات نوعية قاسية وربما محرجة إلى حدٍّ كبير. فالمساعدات لم تعد مُتاحة، والأوضاع المعيشية تسوء بصورةٍ دراماتيكية، والاقتصاد دخل في مستنقع ركودٍ تضخمي عميق، والمافيا الاقتصادية في ضوء ما لديها من مقدرات وما تتمتع به من علاقات وإمكانات، أصبحت من الخطورة والنفوذ، بما يؤثر سلباً في الدولة السورية، وآليات الحرب وديناميات الصراع على ما يبدو مستمرة لأجل غير مسمى، يتحدد مداه في ضوء مصالح وإستراتيجيات الدول الكبرى المشرفة على إدارة الصراع. ما يعني أنه أصبح من الضروري جداً على الحكومة السورية أن تقوم بإجراء مراجعة شاملة لجهة اعتماد مقاربات مختلفة، وسيناريوهات بديلة تنطلق مما يلي:
أولاً: العمل المكثف من أجل تقوية الثقة بالدولة ككيان سوري أسمى وأرقى، والرهان على مؤسسات الدولة حصراً والقطاع الخاص الحقيقي (المنظم)، وليس على أشخاص أو على شبكات المصالح المافيوية، التي تؤمن الخدمات التي لن تجدي نفعاً في المنظور الوطني الإستراتيجي، من كل ذلك إلى ضرورة إعادة القيمة لقدسية المصلحة العامة، التي اهتزت في مخيلة شرائح واسعة من المجتمع السوري، ذلك جراء حالة الإحباط واليأس، وانتشار مظاهر الفوضى وحالة التسيب، التي أمّنت الظروف المثالية، لانتعاش رجال اقتصاد الظل والمافيا وتجار الأزمات، الذين أصبح تأثيرهم أكبر ونفوذهم أعظم، ليس في الاقتصاد فقط، بل في السياسة أيضاً، من كل ذلك إلى ضرورة شنّ حملة جدية وحقيقة مكثفة لاستئصال بنية الفساد.
ثانياً: وضع رؤية إستراتيجية خاصة بعمليات الإقراض والتمويل المصرفي، ذلك لجهة ربطها بقوة بأولوية تنمية القطاعات والأنشطة الإنتاجية المُستهدف التأسيس عليها، لتجاوز مرحلة اقتصادية انتقالية بالغة التعقيد على المستوى الاقتصادي، بمعنى: أن عملية التمويل المصرفي يجب ألا تكون خاضعة لحسابات الأجل القصير كتحقيق النمو في أرباح قطاع المصارف. مع أن ذلك لا يمكن تجاهله لأن المصارف يجب أن تعمل بمعايير اقتصادية ومصرفية، لكن المصارف في الظروف الراهنة يجب أن تكون رافعة ووسيلة لتحقيق إستراتيجية إنقاذ اقتصادي، وليست غاية أو موضع رهان بحد ذاتها.
ثالثاً: عدم المساس بواقع أسعار حوامل الطاقة، أقله في اللحظة الراهنة، ذلك نظراً لما سيترتب على ذلك من ارتفاع غير مضبوط في تكاليف الإنتاج، في الوقت الذي يتعين فيه على الحكومة أن تقوم بعملية تحفيز الإنتاج والإنتاجية، كمقدمة لتصحيح موازين اقتصادية باتت مختلة بصورة حادة.
رابعاً: عدم الرهان كثيراً على مردود السياسات قصيرة الأجل في إدارة الاقتصاد على أهميتها، لأنها باتت تكتيكية، فقدت مفعولها من الناحية العملية، نتيجة المفاعيل القاسية لواقع سياسي صلب، مُعاند ومتكلس، يتقاطع مع واقع اقتصادي هش ومتفكك، لا يمكن أن يشكل قاعدة صلبة لخدمة غايات وطنية كبرى، ما يعني ضرورة التوجه وبحزم، نحو تبني سياسات قد تكون مؤلمة بلا شك في الأجل القصير، لأن الناس يحتاجون إلى حلول إسعافيةٍ، لكنها مهمة في الأجل المتوسط والطويل، تركز على الجوانب المتعلقة بتحفيز الإنتاج والإنتاجية وزيادة العرض، انطلاقاً من أولويات معينة مرتبطة بأهداف دقيقة، على مستوى القطاعات والأنشطة الاقتصادية كافة.
خامساً: اجتراح سياسات نقدية ومالية خلاقة، وابتكار إجراءات استثنائية، تستهدف ضبط الوضع المالي والنقدي وتوطيد دعائم الاستقرار الاقتصادي في الأجل المتوسط والطويل، بما يجعل انتظار الكتلة النقدية المُجهزة أو المُعدة للمضاربة والمُراهنة على عامل الزمن، ما سيدفعها نحو إجراء تحويل معاكسة إلى الليرة السورية جراء التكلفة المرتفعة لعملية الانتظار الطويل الأجل.
سادساً: الابتعاد ما أمكن عن مصادر التمويل الاستثنائية بصفتها عملية سهلة ومريحة لصانع القرار الاقتصادي الراهن، تساعده في الهروب، وترحيل الأزمة بمفاعيل أشد وأعباء أثقل لمن سيخلفه، وعليه يبقى الأكثر أولوية هو التحول نحو تطوير المصادر الطبيعيّة للتمويل، التي يمكن أن تأتي بوساطة عملية تحفيز الإنتاج، وتوليد فوائض اقتصادية، وخلق دخول وأرباح، يمكن الرهان عليها كمكونات فعلية في مجموع الطلب الكلي، هذا من جانب، وكمطارح ضريبية طبيعية (عادية)، يمكن الاعتماد عليها في عملية تأمين الإيرادات اللازمة لتمويل الإنفاق العام من جانبٍ آخر.
سابعاً: خلق بيئة أعمال تنافسية أكثر شفافية ووضوحاً، سواء أكان ذلك لجهة ما يتعلق بالأهداف، أم لجهة ما يتعلق بالتشريعات والنظم الإدارية والقانونية، إذ يمكن البناء عليها في تمكين أدوات السياسة الاقتصادية، لأن تصبح أداة فاعلة بقوة من أجل تحقيق نقلة نوعية، نحو تأمين شروط ومتطلبات التوازن الاقتصادي على المستوى الكلي.
وفي الإطار ذاته لابد من التأكيد أن استمرار حالة الفوضى، واستحكام قبضة الاحتكار المافيوي، وتحولها إلى خاصة بنيوية في الاقتصاد السوري، كلّ ذلك سيفوت بلا شك الفرصة على السياسات الاقتصادية وغير الاقتصادية، التي يمكن أن تعتمدها الحكومة، مهما كانت غنية في مضمونها وتقنيتها، وسيحولها إلى سياسات عاجزة، وأدوات غير مفيدة، في تحقيق الأهداف الإستراتيجية للدولة، سواء أكان ذلك لجهة ما يتعلق بتحفيز الاقتصاد (خاصةً العملية الإنتاجية)، أم لجهة ما يتعلق بتحسين مستوى معيشة الناس، وتخفيف مظاهر الحرمان والبؤس.
إنَّ دخول الاقتصاد السوري حالة الركود العميق التي أسهمت في تكلس مفاصله، وتجفيف شرايينه منذ ما يزيد على ثلاث سنوات وحتى يومنا هذا، لا يمكن أن يُفسّر بأسباب تتعلق بانخفاض حجم الكتلة النقدية، أو في مستوى السيولة، بمقدار ما يمكن أن يُفسّر بحالة الاحتكار المستحكم، والنفوذ المتعاظم للمافيا الاقتصادية، والقوى الطفيلية، التي باتت تمتلك كتلة نقدية كبيرة، كانت قد تسربت على امتداد السنوات الماضية من تيارات الإنفاق على الناتج، بصورة دولارات أو مسكوكات ذهبية، وغير ذلك من أساليب الاكتناز التحوطي المختلفة، التي كان لها في الواقع دور كبير في تعميق فجوة الركود الاقتصادي، وتشويه السوق، وحرف المتغيرات الاقتصادية على المستويين الكلي والجزئي عن مساراتها الطبيعية أو شبه الطبيعية، بصورةٍ بات من غير الممكن احتواء مفاعيلها، بوساطة أدوات السياسة الاقتصادية الكلاسيكية. وهنا تصبح المبررات أقوى لطرح التساؤل التالي: إذا كان حجم العرض المُتاح كافياً، والمستودعات والمخازن التجارية مملوءة بالسلع والخدمات التي تنتظر المستهلك، وحجم الطلب الكلي منخفضاً جداً، جرّاء انخفاض الدخول بالمقارنة مع العرض، (هذا ما يتم طرحه والتأسيس عليه من مؤيدي سياسة تحفيز النمو بدفع الطلب، بوساطة زيادة حجم الإنفاق العام، وتحديداً على بند الرواتب والأجور)، إذاً، لماذا لا تنخفض الأسعار؟ وكيف يمكن تفسير بقائها معاندة عند مستويات مرتفعة، تتجاوز إلى حدٍّ كبير حجم القدرة الشرائية لأغلبية المجتمع السوري؟!
ثامناً: إعادة النظر في بنية المالية العامة للدولة السورية، التي تمكنت طوال تاريخها الطويل من أن تكون أداة مالية حقيقية، ولم تتمكن من أن ترتقي كي تكون أداة تنمية اقتصادية حقيقية، مرتبطة بإستراتيجيات واضحة ومحددة، وربما يعودُ جزء من مشكلتها لعوامل وأسباب، لا تتعلق بها بمقدار ما تتعلق بعدم امتلاك جميع الحكومات السابقة لرؤية إستراتيجية واضحة لدور المالية في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية هذا من جهة، ولدورها في تحقيق التوازن الاجتماعي والاقتصادي من جهة أخرى. ولذا فإننا نعتقد أن المطلوب الآن على مستوى المالية هو إجراء عملية إعادة هيكلة نوعية، تطول الإستراتيجيات التي كانت تحكم أولويات سياسات الإنفاق العام، وإعادة تصويبه بصورةٍ مركزة نحو أهداف واضحة ومحددة، تنطلق من خريطة أولويات إنتاجية/ قطاعية، يمكن أن تساعد في تنفيذ عملية عبور هادئ وسلس لمرحلة اقتصادية انتقالية شائكة ومعقدة، يتعين على الاقتصاد السوري أن يتجاوزها، إن لم يكن بأرباح وهذا متعذر الآن، فبتكاليف اقتصادية واجتماعية أقل.
الوطن