"عزيزي القادم من بلوتو".. رسائل أشواقٍ من كوكب الأرض إلى الحبيب المجهول
"إليه هو، هو الذي لم يظهر بعد؛ لأنه لم يحن أوانه بعد، وربما لا يحين.. هو الذي لا أنوي التنازل عن أيٍ من مواصفاته البهيّة.. هو حقيقتي الحالمة.. هو الذي لأجله أرفضهم جميعاً.. أنبذهم جميعاً.. ولأجله أنساهم جميعاً.. لأنهم ليسوا هو".
هكذا تستفتح الكاتبة الشابة، هديل عبد السلام، رسائلها الخمس والعشرين، إلى هذا الحبيب الذي لم يأتِ بعد، هذا الحبيب المتفرد، الذي لا يشبه أحداً، والقادم من بلوتو.
ولماذا بلوتو؟ لأنه الأبعد، والأكثر عناداً ورغبةً في التفرد، أو مثلما تصفه في إحدى رسائلها:
"هو الأبعد والأصغر، تعلمنا منذ الصغر أنه كوكبٌ ضمن المجموعة الشمسية، وكبرنا لنعرف أنهم قرروا إقصاءه لتفرده، وذلك أنه يأبى أن يسير في مدار محدد كباقي الكواكب، ولأن البشر يقدسون التبعية والخط المستقيم، ويكرهون التفرد والتحرر والانقلاب على الوضع الراهن، قرروا طرده من المجموعة الشمسية".
خمسة وعشرون رسالة إذاً، مليئة بالشوق والتفاصيل الرقيقة الحالمة، وصوت فيروز في الخلفية، تسمعه يتردد في أذنيك؛ كلما استشهدت الكاتبة بكلماتٍ من أغنياتها، وكثيراً ما تفعل.
تفيض سطور الرسائل بتفاصيل عن الكاتبة، ما تحب وما تكره؛ فتلمح في بعض السطور طفلة، لا تحب من القهوة سوى رائحتها، وتفضل "الشاي بلبن"، ولا تحب "طنط"، هكذا على إطلاقها، وتفضل حب الغرباء.
تحدثك عن دبها الوسيم المحشو، الموجود فوق مكتبتها، والحلوى والشوكولاته التي تعشقها، والفراشات التي اعتادت مراقبتها في الطريق، والبالونات وصناديق الموسيقى، والسبع وسائد المحشوة بالسحاب؛ التي تنتظر أن يهديها إياها الحبيب القادم من بلوتو.
ثم تلمح، في سطورٍ أخرى، جانبها الناضج، ربما قبل أوانه، مثلما تصف هي كل جيلها.
"نحن من عرفنا كل شيء مبكراً، فأرهقتنا عقولنا عند خط البداية، نحن من قفزنا من قاع الرؤية إلى ذروتها دون المرور بما بين ذلك من مراحل، فأعمتنا قوة الضوء عن رؤية الجمال في الحقائق، فرأينا الحقائق على قبحها فقط".
وتستمر، بأكثر من موضعٍ في رسائلها، في الحكي عن التقلبات المزاجية لجيلها، وصراعاتهم النفسية، والرصاص والدم، والإحباطات المتكررة، والمجتمع الذي يحاصرهم بالقولبة، ويريدهم أن يكونوا نسخاً مكررة لا تغادر المدار، وهي تعاني من "فوبيا الاستنساخ"، مثلما أسمتها؛ وتعشق هؤلاء الذين يرفضون المسارات الجبرية، مثل بلوتو، والقادمين منه.
وحين تحدثنا عن فلسفة الغياب ووجعه، والرجوع وأوجاعه، ثم النسيان، الذي يحول الوجع الكبير إلى مجرد "وخزة بالكاد تحسها"؛ تقرأ سطوراً لا يُفترض أن تصدر من فتاةٍ في الخامسة والعشرين، تحب الشاي بلبن، تراقب الفراشات بشغف!.
لكنه الألم على ما يبدو، يُنضج تحت ناره سنوات العمر الغضة، ويرهق الروح الفتية.
ولا تخلو رسائل هديل، في مواضع كثيرة، من النرجسية، والشعور بالاختلاف والأفضلية؛ لأنها تستحق الجمال، وتنتظر الأفضل، وهي فراشة، وأثر الفراشة لا يزول. وإذا طرقت على باب قلبها وأجابتك النبضات؛ فأهلاً بك في الجنة! فلتنعم مثلما يحلو لك برحيقها، لكنك لن تمتلك مفتاحها أبداً!
نرجسية لا تخلو من حسٍ طفوليٍ حالم، ترفض هي أن يتغير أو ينضج؛ ليجعلها تقبل بالمتاح، والممكن والواقع. لن تفعل ذلك، وستنتظره.
"أنت أقصى جنوني وتفاحة اتزاني.. وأنت خمرتي وقهوتي وملحي وسكري ودائي وترياقي.. وأنت جواب دعائي في الصلاة إذا الليل عسعس".
لكنها تعود في مواضع أخرى، لتخبرنا أنها لا تطمع في كثير؛ فهي فقط تريده أن يخلق حولها دائرة هادئة، ومنطقة من السلام الروحي، تلجأ إليها بين أحضانه حين تنهكها الحياة والصباحات المزعجة، ولا تحلم بأكثر من أن تكبر بجواره.
وحين تصف ليلة زفافها على ضيف كوكبنا من بلوتو، لا تتحدث عن بهرجة وصخب؛ وإنما عن ثوبٍ رقيق، وليلةٍ مقمرة،ٍ وأغنيات ناعمة وحالمة، وكثير من التفاصيل المعتادة والبسيطة، التي نحفظها عن ظهر قلب من أعراس أقاربنا وأصدقائنا.
وهي تحب الخريف "الخريف هو المنتصف.. هو منتصف كل شيء.. الخريف هو الفرصة الجديدة للمراجعة والتراجع"، وهي تحب الليل، وتعشق الموسيقى، وتملك فراشاتٍ خاصة، تعزف لها طوال الوقت، وتجعلها بمعزلٍ عن العالم، وضجيجه وصخبه.
طفلة هي، تسبح في عوالمها البعيدة، لكنها تعده أيضاً، أن تكون سنده وقوته، والقادرة على حمل عبء قلبه دوناً عنهن، الأخريات. ستكون وطنه، الذي يحمل عنه إذا كلت كتفاه وتعبت، وستحبه دائماً، "بلا ولا شي.. بحبك.. بلا ولا شي".
وهكذا، تمضي السطور، تبث هموم هذا الجيل وأحلامه وأغنياته وإحباطاته وأوجاعه، في غلافٍ من الرقة، وكثير من الخيال والحلم. يتداخل الهم العام مع الحياة الخاصة، ولا تنفصل الأوطان أبداً، ولا تغيب عن لحظات الحلم، وصفعات الواقع، حين يوقظنا بعنفٍ وقسوة.
هاف بوست