السوريون بين استعادة ثروات الفساد.. أو استمرار ثروات الفساد في ابتلاعهم
تزيد الحرب من حدة الانقسام الطبقي في أي مجتمع من المجتمعات، فخلال الحروب وبعدها، تطفو على السطح فئات اجتماعية جديدة تتميز بالثراء الحاد، في الوقت الذي تندثر فيه ثروات الكثير من الفئات الاجتماعية، فتتقدم فئات على سلم التراتبية الاقتصادية في حين تتراجع فئات مراتب كثيرة على السلم ذاته، وبين تلك الفئتين تندثر وتتهمش فئة ثالثة في المجتمع، وتنزلق نحو مزيد من الفقر والحرمان والتهميش، فالحرب، في النهاية، ليست أكثر من آلية مباشرة لتغيير الترتيب الطبقي/الاقتصادي في المجتمع، تغيير مصطنع وسريع جداً، أي أنه تغيير غير قسري وغير طبيعي ينتج مزيداً من الاختلالات الاجتماعية. نتجت ثروات ما بعد الحرب في الاقتصاد السوري بطريقتين أساسيتين، طريقة مشروعة وطريقة غير مشروعة، أما الطريقة المشروعة المنتجة للثروة فهي ناتجة عن قدرة بعض الفئات الاجتماعية كبعض الصناعيين والتجار والمستثمرين والمستوردين والمصدرين، من الاستفادة من تقلبات النشاط الاقتصادي واقتناص الفرص من أجل تنمية ثروتهم الأساسية، وتكوين ثروة جديدة إضافية، وغالباً ما تكون هذه الفئة بالأساس من الفئات الثرية تاريخياً، والتي لها خبرة اقتصادية عملية تضمن لها تنمية ثروتها خلال الأزمات والحروب، أي أن ثروتها تنمو ضمن الاقتصاد المنظم وبطرق مشروعة. أما الطريقة الأخرى لإنتاج الثروة، فهي الطريقة غير المشروعة، أي تنمية الثروة بالفساد، حيث استغلت بعض الفئات الاجتماعية ظروف الحرب الاقتصادية والسياسية والأمنية من أجل خلق ثروات بطرق غير مشروعة، يكون مصدرها الأساسي العمليات الاقتصادية غير المشروعة كالتهريب عبر الحدود، واستغلال النفوذ لتسيير المعاملات وتزويرها، والاتجار بهجرة الأشخاص، والمضاربة على قيمة العملة الوطنية، والاتجار بالمساعدات الدولية الإنسانية، وسرقة المنشآت والمرافق العامة والخاصة والمنازل وبيع مقتنياتها بعد العمليات العسكرية، أي أن تلك الثروة تنمو في ظل الاقتصاد غير المنظم غير المشروع لا قانونياً ولا أخلاقياً، وتعمل على تنميته بالوقت ذاته، وغالباً ما تكون نتيجة تلك العمليات كلها نشوء فئة اجتماعية أثرت بطريقة مشبوهة وسريعة، وراكمت ثروات مالية وعينية ضخمة، وبدأت تقوم بتدويرها في الاقتصاد من أجل تنميتها أكثر. إلا أن الأخطر من ذلك كله، أن عمليات تبييض جزء كبير من تلك الثروات بدأت تتم في الاقتصاد السوري، من خلال إعادة استثمارها في بعض المشاريع الخدمية والتجارية التي تحولت إلى غطاء لتنمية وتضخيم تلك الثروات، وقد استغل أصحاب تلك الثروات حالة انعدام أو تراخي الرقابة القانونية أو المساءلة على أموالهم ومصادرها المشبوهة أساساً، كانعدام الرقابة على مصادر الأموال المودعة بكميات كبيرة في حسابات بعض الأشخاص، أو انعدام المساءلة على كمية الاستثمارات الكبيرة والمفاجئة التي ضخها أشخاص بشكل مفاجئ في مناطق معينة في الاقتصاد، أو انعدام المساءلة عن قيام بعض الأشخاص بتأسيس شركات أو استثمار أملاك عامة بمبالغ كبيرة جداً من دون وجود سجل استثماري سابق لهم، أو حتى انعدام الرقابة والمساءلة على طريقة الانفاق التبذيري الفاضح والفائض عن الحاجة لدى الكثير من الناس الذين كانوا ما قبل الحرب من الطبقة الوسطى أو حتى من الفقراء. لقد بدأت تلك الفئة الصاعدة بأموال الفساد والخراب بمركزة جزء كبير من الثروة غير المشروعة بيدها في الاقتصاد، الأمر الذي يعني مركزة لعمليات فساد اجتماعية جديدة، فالثروة غالباً ما تُخضع السلطة بمراكزها المختلفة بفعل تحالفها مع بعض قوى السلطة، وغالباً ما تفتح الكثير من الثغرات في جدار القانون بفعل قدرتها على شراء الضمائر الضعيفة، في الوقت الذي يجب أن تكون فيه السلطة والقانون السد الأساسي في وجه استمرار تدفق هذه الثروات في المجتمع، ولها الدور الأساسي في المساءلة والمحاسبة عن مصدر وشرعية هذه الثروات. هل يمكن أن يقف السوريون يوماً ما في وجه ثروات الفساد ومصادرها المشبوهة ومحاسبة أصحابها؟ أليست أغلب تلك الثروات قد كونت على حساب الشعب اقتصادياً واجتماعياً، وعلى حساب صموده طيلة 8 سنوات من الحرب عليه عسكرياً وسياسياً؟ أليس من حقه أن تعود ثرواته المنهوبة من قلة قليلة إليه؟ لا أعتقد أنه من الصعب تفكيك شبكات الثروات المشبوهة في المجتمع السوري والتي نتجت تحديداً بفعل ظروف الحرب، فأصحابها، ومن حيث المبدأ، باتوا أشخاصاً معروفين، وربما معروفين جداً، ومصادر ثرواتهم وكيفية جمعها باتت معروفة أيضاً، وطرق إنفاقها واستثمارها أصبحت واضحة، وكل ما هو مطلوب الآن أو لاحقاً كي تعود ثروات الفساد إلى الشعب هو قرار سياسي، وتشريعي حازم يسمح للأجهزة الاقتصادية والتشريعية القضائية بتعقب مصادر تلك الثروات ومحاسبة أصحابها وإعادة ما نهبوه من المال إلى خزينة الدولة، فهذه الأموال هي أموال السوريين أولاً وأخيراً. وكخطوة أولى يُمكن اتخاذ إجراءات فورية وحاسمة تمنع هؤلاء الأثرياء من التغول أكثر في الاقتصاد وذلك من خلال تقييد أنشطتهم المالية والاستثمارية، وتشديد المراقبة عليها كتجميد حساباتهم المصرفية أينما وجدت في بنوك القطاعين العام والخاص، والتوقف عن منحهم تراخيص وموافقات لتأسيس المزيد من الأعمال، ومنع القطاع العام من التعامل معهم، ومصادرة ممتلكاتهم التي حصلوا عليها خلال فترة الحرب، وذلك بالعودة إلى السجلات التجارية والصناعية والعقارية وسجلات النقل من أجل حصر أملاكهم المشبوهة، وملاحقة المؤسسات والأشخاص الذين تعاملوا معهم واعتبارهم شركاء، وذلك من أجل وقف استمرار عمليات تبييض أموالهم. وكخطوة ثانية يمكن إصدار تشريع خاص ودقيق يسمح بملاحقة أصحاب تلك الثروات ومصادرتها بشكل نهائي، بعد أن يتم التأكد من عدم شرعيتها، ويكون لهذا التشريع أثر رجعي يشمل سنوات الأزمة كلها، ويحدد المصادر غير المشروعة للثروة وآلية المحاسبة عليها. إن تمت ملاحقة ومصادرة الثروات المشبوهة كلها فمن الممكن عندها البدء بخطوة ثالثة تكمل ما سبقها، تلك الخطوة هي عبارة عن تجميع تلك الثروات وتحويلها إلى صندوق وطني خاص بإعادة الإعمار يعيد للسوريين ما فقدوه خلال الحرب، ويعيد لهم الثقة بالدولة السورية أكثر، ويؤمن مصدراً مهماً من مصادر التراكم الداخلي اللازم لعملية الاستثمار المادي الحقيقي، لا الاستثمار غير المنتج كما هو الحال الآن، فتلك المليارات التي تكدست في خزائن أثرياء الحرب يحتاجها الاقتصاد لإعادة إعماره، وبالتالي فإن كل ما هو مطلوب هو تفتيت ثروات الفساد وتفكيك مراكزها، وإعادة مركزتها بيد الدولة بشرط توظيفها في الصالح الاقتصادي العام بشكل شفاف وعلني، فالأموال التي نهبها أثرياء الحرب الجدد على حساب الخراب والدمار لا بد وأن تعيد بناء ذلك الدمار. قد تبدو تلك الخطوات الثلاثة للتعامل مع المركزة الجديدة لثروات الفساد المادية والعينية أمراً صعباً، هو كذلك طبعاً، أو لا بد من الاعتراف بأنه صعب، لكنه ليس مستحيلا أبداً، فمثل هذا القرار السياسي والتشريعي الحاسم سيجد له، وبشكل لا يرقى إليه الشك، تأييداً شعبياً واسعاً ودعماً اجتماعياً كبيراً، إذ لا أعتقد أن أحداً من السوريين لن تكون لديه الرغبة في مشاهدة ثرواته تعود إليه وتعيد له جزءا كبيراً مما فقده، فالمجتمع الذي تغول الفساد فيه هو أكثر المستفيدين من القضاء عليه… ما زال لدى السوريين فرصة كبيرة، فإما أن يستعيدوا ثروات الفساد وإما أن تستمر ثروات الفساد في ابتلاعهم. الايام