في فهم السادية..رحلة في عقل«الماركيز دي ساد»
«لا يمكن ملامسة الانتهاك إلا من خلال الكتابة التي تصبح مكان إثبات لا حدود له، أي أنها لا تحيل إلا على ذاتها – كالرغبة – مقترفة هذه الجريمة العظمى – التي تفوق الجريمة ما دامت هذه تعترف بشكل أو بآخر بالقانون – المتمثلة في تحويل الواقع إلى خيال فعال تعمل جِدَّته على تعرية عالم الخير والشر بلا هوادة». *من مقال: «ساد في النص: فيليب سولليرز».
من المعنى السابق فإن الوحش السادي المنسوب إلى دي ساد هو وحش مكتوب يظهر أثناء تحققه في حرفيته الأدبية الكاملة، إنه هذا الذي يفعل ما يقول ويقول ما يفعله ولا شيء آخر أبدًا. إنه يتجرد من ثيابه ويحيل عريه الكامل إلى فكر محددة معالمه؛ ويقف على نفسه في مكان قصي منها يتصدع وينتشي ويحدث من خارجه تدميرًا شاملًا وانشطارًا ضوئيًا ينمحق معه جسده.
أدب دي ساد هو نوع من العدسات التي تركز خيوط اللذة في نقطة واحدة فتتحول إلى طاقة فتاكة وأدب خيالي أكثر منه مضللًا لا يمكن مساواته أو مقارنته، وإذا كانت الرواية مرآة أمينة للقلب الإنساني لابد أن تعكس صفحاتها كل ما به من صدوع وجروح، فالذين يعجزون عن خلق الجحيم الذين يتوقون إليه يشبعون رغباتهم في هذا العالم الخيالي.
دو ساد والإيذاء اللذيذ على الورق
كل من يعرف القراءة في يومنا هذا على الأرجح صار على صلة بكلمتي سادية ومازوشية، وما لا يعرفه الكثير أن كلا التعبيرين يمد جذوره العميقة في عالم الأدب؛ ولقد اشتقت الكلمتان من اسمي نبيلين أوروبيين هما الكونت دوناتييه ألفونس فرانسوا دي ساد والفارس ليوبولدفون ساشر مازوش. ومن المستحيل البحث في الجوانب الأدبية للتعذيب دون التنقيب عن دو ساد الفرنسي وقصته في تأسيس معالم السادية في أدبه.
في مقدمة كتاب «الماركيز دي ساد» من تأليف ستيوارت هود وجراهام كرولي الصادر عن المركز القومي للترجمة، جاء وصف الكاتبين لدي ساد بأنه سار بأفكار ذلك العصر حتى نهايتها، فأخذ بالمادية، والإلحاد، والإباحية، في أشد صورها تطرفًا، بينما رأى فريق آخر أن السادية ليست مجرد انحراف جنسي، بل إنها كانت سلاح دي ساد لارتياد آفاق مجهولة في الطبيعة الأساسية للأخلاق.
ومهما يكن من شيء فقد أصبح مصطلح «السادية» يعني في علم النفس الحديث اللذة الجنسية التي يجدها الإنسان في الانحراف الجنسي الذي يصطبغ بالقسوة، وإنزال الألم بالغير أثناء الممارسة الجنسية، غير أن من الباحثين من يرى أن «السادية» ليست ظاهرة حديثة في حياة الإنسان، وإنما هي ظاهرة قديمة – وإن لم تشكل انحرافًا – فإن درجة معينة من «الممارسات السادية» تحدث في حياة معظم الناس، وهم عمومًا يقومون بأفعال كثيرة مؤلمة مثل القرص، والخدش، والعصر، والعض وغيرها من الأفعال التي ينتج عنها بعض الآلام الخفيفة غير الضارة أو المؤذية، إلا إذا بلغت حدود التطرف والإيذاء لأي من المشاركين فيها.
وعلى الرغم من أن الانطباع السائد هو أن الماركيز دي ساد قد ركزَّ اهتمامه فقط على ممارسة العنف في العلاقات الجنسية، وهي ممارسة قد تكون مؤلمة، وشديدة الألم في بعض الأحيان؛ كإحداث شروخ بمشرط أو سكين في جسد الضحية وملئها بالشمع المذاب… إلخ، إلا أنه كان يحمل الأفكار التي أصبحت مثارًا للاهتمام العلمي بعد وفاته بقرن ونصف، وذلك لأنه قد أدرك من تجربته الخاصة مدى العلاقة الوثيقة التي أثارها سقراط في القرن الرابع قبل الميلاد في محاورة فيدون التي تربط بين اللذَة والألم، وسواء اتفق العلم أو اختلف مع آرائه، فقد فتح مصطلح السادية الذي يُنسب إليه مساحة واسعة للتأمل في ظاهرة قديمة وملاصقة للحياة الإنسانية وهي ظاهرة العنف أو العدوان أو الدوافع التي تجعل الإنسان يشعر بلذة في إيذاء الغير لا لغايات جنسية فحسب، بل لغايات أخرى لا يبدو فيها أي غرض جنسي.
كيف تكون السادية؟
«تكمن السعادة في ما يثير ويهيّج، وليس هناك شيء يثير سوى الجريمة، أما الفضيلة، التي هي ليست سوى حالة خمول واستراحة، فإنها لا تفضي إلى السعادة» *الماركيز دي ساد.
ذهب بعض الباحثين إلى أن السادية (ظاهرة الإقدام المباشر أو غير المباشر على العنف) إنما هي مظهر للتعبير عن الطاقة الجنسية غير المستنفدة بشكل كاف بالطرق الجنسية المباشرة، ولهذا السبب فلابد لها أن تظهر على صورة عنف أو ميل إلى العنف، وعلى الرغم من صعوبة إثبات هذه العلاقة، فإنه لا يمكن إغفال ملاحظة علمية تقول إن «الاستجابات الجسدية الفسيولوجية للاعتداء والعنف مهما يكن الداعي إليها تشبه – في معظم الحالات – الاستجابات الفسيولوجية للعلاقات الجنسية – كما أن قدرة الفرد على ممارسة العنف – بغض النظر عن أسبابه – تضعف إلى حد بعيد، عندما يصل المرء إلى مرحلة الانطفاء للاستجابات الجنسية. أو بسبب انغماس الفرد المتواصل في الأنشطة الجنسية».
أشار فرويد إلى أن السادية لم تكن فقط القطب المضاد للماسوشية؛ ليكمل عليه الأدب بأن تتحول السادية إلى نظرية؛ فأصبح مصطلح «السادية» يدل على الفلسفة المادية الحسية التي اعتنقها كثير من أدباء القرن الثامن عشر في فرنسا، وفلاسفة من أمثال كوندروسي، وديدرو.
وتأتي هذه الفلسفة بأن العالم عبارة عن مادة في حالة حركة مستمرة، وليس في استطاعة الإنسان أن يدركها إلا من خلال حواسه؛ ومن هنا فعلى الإنسان أن يدرب حواسه باستمرار ليصبح على دراية تامة بطبيعتها، ولكي يدرك المبدأ الحقيقي للإنسان، فهذه الفلسفة مظهر من مظاهر سعي الإنسان وراء الحقيقة في ضوء فطرته.
ويرى الماركيز دي ساد أن الإنسان بالأساس ليس خيرًا، وإنما هو بالطبيعة عنيف، وقاس، والعودة إلى الطبيعة تعني العودة إلى هذه القسوة بإثارة ما في النفس من غرائز عنيفة، والتأمل من غير خداع للنفس في مصادر اللذة والمتعة؛ مما يشعر الإنسان باتساع آفاق ذاته وحدودها.
والملاحظة أن هذه الفلسفة تعدت حدود القرن الثامن عشر، وأثَّرت في الحركة الرومانسية في أوروبا حتى العقد الأخير من القرن التاسع عشر؛ حيث لعبت دورًا مهمًا في المدرسة الرمزية في فرنسا. وهكذا يَبيّن لنا أن السادية لم تكن كلها ممارسة جنسية عملية يسودها العنف فحسب، بل كان لها جانب نظري تمثل في مؤلفات دي ساد ذات المحتوى العنيف في تصوير الممارسات الجنسية وأهم هذه المؤلفات روايته الشهيرة «جوستين».
وإن كان الماركيز لم يمارس سوى القليل مما كتبه خياله على الورق فإنه خلق لنا مصطلحًا ارتبط باسمه ليصبح من أكثر المصطلحات تداولًا على أسنة أقلام المؤلفين وعلماء النفس الحديث.
في الوقت الذي نعتبر فيه السادية جنوحًا لغريزة الموت والهدم والإيذاء فإنه يتبين أن الاتجاه السادي يجنح لخلط الهدم والحب والموت والحياة وتفريغ لعداوات مجلبة للذة في حد ذاتها. وهنا علينا التأكيد على أن للسادية أنواعًا كثيرة منها:
السادية الإستية (Anal Sadism): وهي توجد في الأصل في استياء الطفل من توقيع العقاب عليه أثناء تعلمه النظافة في الإخراج.
السادية المعقدة (complicated Sadism): عندما لا يعاني المريض وهو يقوم بفعل اللذة وحدها، بل أيضًا الرعب والاشمئزاز والألم، ويُستخدم هذا المصطلح في مجال الطب العقلي.
السادية المقلوبة (Inverted Sadism): وهو الكبت الإيجابي لميول سادية قوية، يكشف عن نفسه كحذق واجتناب لأي تغيير شعوري عن الكراهية أو العدوان، أو كتصور ذاتي أو يأس أو فقدان أمل.
وسادية الأنا الأعلى، وسادية لاشعورية، وسادية أولى، وسادية مازوخية… إلخ؛ مما يؤكد أن المسألة ليست مجرد انحراف أو اتجاه في ممارسة الجنس، بل هي أعمق من ذلك.
إنكار دي ساد لتفوق دور الإله على البشر
«عبر العصور، وجد الإنسان لذة في سفك دماء أمثاله، ولأجل تبرئة نفسه، فقد قنع هذه الرغبة حينًا بقناع العدالة، وأحيانًا بستار الدين، وفي العمق، تبقى اللذة العارمة التي يجدها في ممارسة القتل هي الموجه الأول والأخير»، هكذا تحدث دي ساد.
لم يجد دي ساد معنى للكتابة إن لم يغلفها بصوت وعيه ورغبته التي تعني غياب القيود والطاقة اللامتناهية واللامسؤولية والفورة التي يسعى كل مجتمع لتصريفها، فتحول معه الإنسان إلى حيوان مروض يرتكب كل الفظاعات متذرعًا بالواجب فيما يفعله، فربط بين العرش والمذبح في روايته جوستين وخلق ثنائيات أهمها ثنائية الروح والمادة، والخير والشر، والسلطة والإيمان، والعبادة والثقافة، وسلسلة طويلة من ثنائيات لا متناهية.
«الألوهية.. هل ينبغي على هذه الآلة الطيبة أن تعتني دائمًا بكل آثام الإنسان؟» *الماركيز دي ساد.
غيب ماركيز الإله ووضع بدلًا منه الغرض الخير لكل شرير ومؤذٍ أخذ دورًا في رواياته، وجعل في بقاء غايات أبطاله السادية أفعالًا طبيعية تتماشى مع المنطق لكنها تؤتي على البشر ربما بضغطة زر واحدة، مقابل الكبت الجنسي والاجتماعي الذي يحفظ بقاء الكون مع خلل في العلاقات الاجتماعية والأسرية التي طالما رأى وجود الجنس فيها داعمًا على بقائها معطيًا دورًا للسفاح في إرساء قواعد المجتمعات.
السعي السادي لجعل نظريته مقبولة مجتمعيًا
«لا تتصوّري أني أعامل زوجتي هكذا من ضغينة أو احتقار، بل ملء عاطفتي. لا شيء يعادل ما أحسّه من لذّة وأنا أفصد دمها! فهو يفضي إلى رأسي ببساطة وأنا أراه يتدفّق. لا أتمتّع بطريقة أخرى قطّ، على الرغم من مضيّ ثلاث سنوات منذ زواجي بها. كلّ رابع يوم تتلقّى المعاملة ذاتها التي جرّبتِها، ولأنها في حدود العشرين، فشبابها يتحمّل، مع الرعاية التي تلقاها، وهذا السبب الذي لا يجعلني أُفلتها أو أسمح لها برؤية أحد. أُوهم الناس أنها مجنونة»، هكذا حكى الماركيز دي ساد على لسان أحد أبطاله في رواية جوستين.
(الرغبة، والجنس، والجسد) أشخاص في أدب دي ساد؛ أداتهم: الكتابة في قالب رواية أو قصة ومسرحية قابلة للقراءة حتى إنه كان يكتب في السجن لفترات دامت أكثر من عقدين متقطعين، وكان من الغريب أن دي ساد كان سعيدًا وهو محتجز في مصحة شارنتون بتأسيسه لما يعتبره الأطباء النفسانيون الصيغة الأولية للعلاج الجماعي، فنظم عروضًا مسرحية مستخدمًا نزلاء المصحة كممثلين، وصار لتلك العروض شعبيتها حتى إن نخبة مثقفي باريس كانت تواظب على حضورها قبل أن تُمنع.
فيما سبق توضيح لنية دي ساد في جعل أفكاره مستساغة ومقبولة من المجتمع الذي حفر من أجله نفقًا من داخل سجنه ليصرخ فيه عبر بوق يطالبه بالثورة على نابليون بونابارت. وفي مقالة فيليب سولليرز بعنوان: ساد في النص، ألمح إلى ثلاث ملاحظات تؤكد فرضية سعي ساد إلى صياغة نظرية عامة للتواصل:
1- تحويل التاريخ عن قصد إلى خيال: فلا يعود ثمة وجود لسرد تاريخي فعلي، موضوعي، بحيث يتم تصوير الحكام والملوك والبابا بنفاقهم المحتمل، فهم يمثلون الشذوذ رسميًا ويجاهرون بخطاب الفضيلة، فيما هم يقترفون الرذيلة ويعبرون عنها في خلواتهم. وهو بهذا الشكل يحطم الصورة العامة للشريعة.
2- يلعب المال بأدبه دورًا حاسمًا: لا يركن ساد إلى الغرائبية، ولكنه يموقع سرده في لب المحسوس، ويجد أن المال والمصالح محددان أساسيان لسلوكيات الشذوذ وعقائده ومنظوماته، وهو ما عبرت عنه جولييت – الأخت الباغية لجوستين – أثناء عبورها بالبابا فتلفت نظره إلى أن الغنى الفاحش للفاتيكان وفقر المسيح يمثلان حقيقتين متناقضتين.
3- العلم: كان على نص ساد أن يحارب كل أنواع الخرافة، ويقدم نفسه حليفًا للعلم في وقت ظل فيه العلم حبيسًا للخرافة لصبغته الاجتماعية، وهذا ما يفسر كون السحر هو الوجه العلمي الوحيد لسرد ساد؛ فتظهر أجساد تتم إبادتها إما بالسم وإما بإغراقها في الدم، أو بطحنها مثل القهوة دون أن نتمكن – في النص ذاته – من الجزم إن كانت هذه الأجساد حقيقية أم خيالية، فيظهر سعار نساء يخلعن قلوب ضحاياهن ويمرغن وجوههن في فضلاتهن العضوية؛ ويظهر مسحوق يشق الأرض ويزلزلها مخلفًا مع انبثاق الفجر مقبرة تضم أكوامًا من العظام.
الكون والدين واللغة والجنس.. هل كل أفعالنا مقصودة؟
«يقول البابا، إن التدمير التام لا وجود له فالموت نفسه ليس واحدًا، وهو من الوجهة الفيزيائية والفلسفية مجرد تحول مختلف للمادة، لا يكف خلاله المبدأ الحيوي، وإن شئنا، مبدأ الحركة عن العمل، بالرغم من أن ذلك يحدث بشكل غير مرئي، لذا فإن مجيء الإنسان إلى هذا العالم ليس بداية وجوده، كما أن موته ليس نهايته؛ والأم التي تلده لا تهبه من الحياة أكثر مما يهبه القاتل من الموت، فأحدهما يخلق نوعًا من المادة المنظمة، بينما يفسح الثاني المجال لإعادة تكون مادة مختلفة: كلاهما يخلق، بمعنى ما،
فلا شيء يوجد من العدم، ولا شيء يتحلل بشكل نهائي، ما يحدث ليس سوى فعل ورد فعل للمادة، إن الأمر كله يشبه حركة أمواج البحر التي تعلو وتنخفض على الدوام من غير أن يؤدي ذلك إلى زيادة أو نقص في حجم مياه البحر. هي حركة أبديّة كانت وستبقى، ونغدو نحن ممثليها الأساسيين، دون أن يساورنا أدنى شك، بسبب فضيلتنا ونزوعات الشر فينا». هكذا حكى الماركيز دي ساد في إحدى رواياته.
بطريقة تفكير أرادت لها الحضارة الحديثة الإلغاء والنسيان كان الماركيز دي ساد يفكر بطريقة دائرية؛ بالعدم الذي صدر عنه كل تنظيم وبالفوضى التي تسبق كل قانون.
بالنسبة لساد الذي يصل بطريقته فعلًا إلى النزعة الأكثر جذرية لجوهر الفرد، فإن التركيبات التي نعتبرها سببًا في وجودنا تم ببساطة «قذفها» إلى الوجود بـ«الصدفة». كما أن الأشكال التي نوجد عليها تم سحقها عن جوهرها وأصبحت منفصلة عنه منذ اللحظة التي تم تشكيلها فيها.
في هذه الرؤية يسعى دي ساد لجعل أفكاره مقبولة من رافضيه، فيؤكد على أن الإنسان المقولب من طرف ثقافته قد انفصل بشكل مطلق عن الطبيعة، وما يود المحافظة عليه من معتقدات ومبادئ يمثل نية اعتباطية تجعل منه ممثلًا متواضعًا في المسرح الكوني، متوهمًا أنه مرغوب فيه، وأنه تبعًا لتوهماته هذه يعتبر وجوده خيرًا ويعتبر موته شرًا.
"ساسة بوست"