سورية تستدين لتستهلك...والتحويلات الخارجية أنقذت السوريين
لم تخلُ الدراسات والأبحاث والمقالات عن التنويه إلى خطورة المشكلات التي تعترض الاقتصاد السوري، ومهما قيل عن تحديات وصعوبات المرحلة القادمة، إلا أنها كانت تقع جميعها في سياق إمكانية الحل النظري، لكن عندما يثبت حجم المشكلة بالرقم الإحصائي هذا ما يجعلنا نقرع جرس الإنذار لاتخاذ إجراءات سريعة وفورية، للحد من هذه المشكلات تمهيداً للمرحلة المقبلة. هذا ما أخبرتنا به الحسابات القومية الصادرة عن المكتب المركزي للإحصاء، والتي بينت أن الاقتصاد السوري اقتصاد استهلاكي وبالغ في الإسراف، حيث شكل الاستهلاك النهائي 128 % من الناتج المحلي الإجمالي، والعجز التجاري 33 % من الناتج المحلي بالقيمة السالبة، في حين لم يتجاوز الإنفاق الاستثماري بشقيه العام والخاص 6 %. وهي ليست بظاهرة جديدة على سورية، إذ لم تنخفض حصة الاستهلاك النهائي عن 75% في سنوات ما قبل الحرب، ورغم تراجع حجم الإنتاج المحلي (نتيجة توقف المنشآت جزئياً أو كلياً عن العمل)، لم يطرأ أي تغيير جوهري على تركيبة المستوردات التي كان من المفترض أن تزيد من نسبة الإنفاق على الأصول الرأسمالية، التي لم تتجاوز وسطياً 8.5 % من إجمالي المستوردات والتي من خلالها كان يمكن تسريع دوران عجلة الإنتاج، إلا أن الاقتصاد السوري عزز من نزعته الاستهلاكية بالاعتماد على المواد المستوردة التي شكلت المواد الاستهلاكية والوسيطة وسطياً 90 % أثناء الحرب. ليس سراً أن الاقتصاد السوري كان يعاني من ضعف الادخار، إذ لم يتجاوز وسطي معدل الادخار 16 % من الناتج المحلي الإجمالي خلال السنوات 2004-2010، وهي نسبة منخفضة جداً لدولة تسعى إلى رفع معدلات النمو، ونتيجة ما تعرض له الاقتصاد من هزات عنيفة خلال سنوات الحرب تحولت هذه النسبة المنخفضة – لأول مرة في تاريخ سورية منذ عام 1963- إلى قيم سالبة، أي النقص في المدخرات (وليس فقط انخفاض) منذ عام 2012، وقد قارب النقص 1 تريليون ل. س عام 2014، ووفق آخر إحصائية وصل إلى 778 مليار ل. س عام 2016. ماذا يعني ذلك؟ أي أن سورية تستهلك كامل إنتاجها وتستدين لتستهلك، وقد تم تمويل القسم الأكبر عن طريق التحويلات من العالم الخارجي، التي تجاوزت 2 مليار دولار (تجاوز 1 تريليون ل. س) عام 2016، بما بعادل 19 % من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا ما يضع سورية أمام مرحلة مفصلية يصبح فيها الحديث عن سياسات اقتصادية، لا تعمل على تشجيع الادخار وعودته إلى مستويات موجبة نوع من الترف التخطيطي. فالادخار ليس مشكلة نقدية مالية بحتة بقدر ما هو نتيجة لسياسات اقتصادية (دون إغفال تأثيرات ظروف الحرب)، أضرت وشوهت عمليتي الإنتاج والاستهلاك، يضاف إليها عدم قيام الدولة بدورها في إعادة توزيع الموارد بين عناصر الإنتاج (العمل ورأس المال)، إذ لم يتجاوز نصيب الرواتب والأجور من الناتج المحلي الإجمالي 20 % بينما حصلت الأرباح على ما يقارب 80 % (بالاستناد إلى المسح الصناعي). وبذلك يعود النقص في المدخرات إلى انخفاض الرواتب والأجور مع الارتفاع المزمن للأسعار، والذي جعل من الصعوبة (إن لم نقل من الاستحالة) قيام المواطنين بالادخار، يضاف إلى ذلك المغالاة بنمط الاستهلاك وتحول المجتمع السوري إلى مجتمع استهلاكي لسلع مستوردة، وهذا ناجم عن تراجع الاستثمار (العام والخاص) والذي لم يتجاوز 5.5 % من إجمالي الناتج، مما أدى إلى تراجع حجم الإنتاج وعدم قدرة الاقتصاد المحلي تلبية الحاجات الأساسية، وإذا ما أضفنا تسرب جزء كبير من الدخول خارج الأوعية الادخارية وتحولها إلى امتلاك الأصول من العقارات والمجوهرات، والاحتفاظ بالعملة الأجنبية والليرة السورية بما يسمى «تحت البلاطة». بذلك يكون النقص في الادخار أكبر مما تم الحديث عنه. وباعتبار المدخرات هي محرك الاستثمار «محرك عجلة الإنتاج» لذا فإن نقص الادخار يعد من أخطر نقاط ضعف الاقتصاد السوري في المرحلة الراهنة، والعامل الأكثر صعوبة في معادلة السياسة الاقتصادية للتأسيس للمرحلة القادمة، وهذا يستدعي أن تكون المرحلة الحالية هي مرحلة تعبئة المدخرات وإعادة تشكيلها بما يتناسب مع متطلبات الاستثمار الذي تفرضه المرحلة القادمة، ويتم ذلك من خلال معالجة مسببات نقص الادخار، مما يضعنا مرة أخرى أمام ضرورة زيادة الرواتب وضبط الأسعار واعتبارها أولوية لا يمكن التهاون بها، من أجل تحسين مستويات الادخار المحلي، ولا بد من ضمان توجيه الموارد إلى استثمارات منتجة تحقق أعلى مضاعف توظيف، وهذا يتطلب تحديدا واضحا ودقيقا لطبيعة القنوات الاستثمارية وضمان توجيه الأموال لأغراض التنمية الحالية. وما سوق العقارات الفارهة وتجميع السيارات إلا فقاعة اقتصادية وتسرب مزمن للمدخرات؛ ولا يجب أن نغفل عن وضع آليات لجذب الأموال السورية الموجودة في الخارج، من أجل زيادة الدخل المتاح. ختاماً، إن ما يفتقد إليه الاقتصاد في الوقت الحالي هو غياب البرنامج الزمني لمعالجة مشكلة الادخار، فلا نفع من أي سياسة اقتصادية لا تؤدي إلى رفع الطاقة الادخارية، ولا تنجح في توجيه المدخرات نحو استثمارات تزيد من الإنتاجية والطاقة التشغيلية، وتعظم الطاقة التصديرية كي نحمي الاقتصاد السوري مستقبلاً من الوقوع في شلل اقتصادي ناجم عن تفاقم المشكلات الاقتصادية مثل الفقر والبطالة وتدهور المستوى المعاشي. المصدر: الايام