احتَقَر الطبقية وكُسر قلبه 3 مرات..أسرار أخفاها بيتهوفن عن معجبيه
يقولون إن الألم منبع الإبداع، وإن الروح المعذبة القلقة، عادةً ما تُخرج الروائع في الفن والأدب والتمثيل!وأنت تستمع إلى سوناتا "ضوء القمر" أو "من أجل إليزا"، وتغمض عينيك وتسافر في عالم من الخيالات الجميلة، هل جال بخاطرك أن خلف هذه العذوبة قلباً يتألم من الحب ولا يستطيع أن يمد يديه، أو يحظى برفقة مَن يحب؟
لأن المجتمع قرَّر أن البشر طبقات، وأن العوام لا يمكنهم التطلع إلى شُرفات الكونتيسات، حتى لو كنا نتحدث عن العظيم "بيتهوڤن"، الذي دخل القصور من أبوابها الرئيسية، وحظي باحترام الجميع! فقوانينُ المجتمع الطبقية وقتها كانت لا تعرف الاستثناءات.
طفولة صارمة تركت بصمتها في حياته
وُلد لودڤيك ڤان بيتهوڤن، في ديسمبر/كانون الأول عام 1770، في مدينة بون، التي كانت جزءاً من الإمبراطورية الرومانية المقدسة.
كان والده الموسيقي "يوهان ڤان بيتهوڤن"، ووالدته "ماريا ماغدالينا كيفريخكانت"، التي عُرف عنها الرقي والخلق الحسن ورهافة الحس.
حينما لاحظ عليه والده تعلقه بالموسيقى، وموهبته المبكرة، بدأ في تعليمه، بشكل شديد الصرامة، منذ أن كان في السادسة من عمره، إلى درجة أنه كان يوقظه من نومه ليتدرب، بل كان يضربه بقسوة، حتى إن بيتهوڤن كثيراً ما كان يتدرب على العزف، ودموعه تغرق وجهه.
هل أثر ذلك في الرجل لبقية حياته؟ هذا ما يراه كثير من الباحثين والمؤرخين، فقد كان بيتهوڤن شخصاً شديد الحساسية، حاد المزاج والطباع، وقيل إنه ربما عانى من اضطراب ثنائي القطب.
كان بيتهوڤن ثائراً على القوانين المجتمعية الطبقية، يحتقر السلطات، ويعتز بنفسه وبفنه، حتى قيل إنه كان يتوقف عن العزف في الحفلات، إذا لاحظ همهمات بين الحاضرين أو حديثاً فيما بينهم.
زاد من حدة طباعه وعصبية مزاجه معاناته الكبيرة مع آلام بطنه الحادة، ثم ضعف سمعه، الذي كان جحيماً حقيقياً لشخص يشتغل بالتأليف الموسيقي، فأذناه وأنامله هما رأس ماله.
قاده هذا الجحيم إلى التفكير في الانتحار عدة مرات، فكتب بنفسه في رسائله إلى أصدقائه، وفي وصيته التي أرسلها إلى أخويه، كارل ونيكولاس، خاصة أن حالة سمعه أخذت في التدهور حتى فقده تماماً في النهاية، فألف السيمفونية التاسعة دون أن يستمع لأي شيء فيها! وحين قدمها على المسرح، كان الجمهور يقف مع كل مرة تصفيق، حتى يراهم بيتهوڤن ويشعر بتحيتهم وإعجابهم.
لكن آلام بطنه، التي كانت بسبب داء في كبده، وسمعه الذي كان يخفت تدريجياً فلا يتمكن من الاستماع إلى ألحانه، لم تكن كل عذابات بيتهوڤن؛ فالجسد المتألم حوى روحاً معذبة، وقلباً ذاق التعلق والفقد، بدءاً من فقد والدته، وهو في سن مبكرة، ليلحق بها والده بعد فترة، ثم فقده لأخيه كارل؛ بعد إصابته بداء السل، تلتها خيبات ومرارات عديدة، خلفها الحب والتعلق بنساء من طبقة أخرى، كانت من المحرمات على أمثاله.
قلب معلق.. لا يحظى بالوصل
كان بيتهوڤن نجماً موهوباً، تتسابق الأسر النبيلة والبيوت الأرستقراطية لاستضافته؛ معلماً لبناتهم أو ضيفاً في الحفلات الفخمة.
وكان شديد الاعتزاز بنفسه، يعلم أنه لا ينتمي إلى هذه الطبقة، وأنه ابن رجل وامرأة من العوام، لكن القوانين الطبقية للمجتمع لم تكن تسري عليه، فيدخل من أبواب القصور الرئيسية، مثل أي ضيف من النبلاء، ولا ينحني لأحد، ولا يتوقف عن نقد ما يراه خطأً، ويهاجم الكنيسة والحزب الحاكم والدولة والسلطات بصوتٍ مرتفع أمام الجميع.
ويروي بعض المؤرخين أنه كان قد ألف السيمفونية الثالثة، وسمَّاها باسم نابليون الأول، ابن الثورة الفرنسية، وقرر إهداءها له.
وخلال ذلك، جاءه تلميذه فرديناند ريس، ليخبره بأن نابليون أعلن نفسه إمبراطوراً على فرنسا؛ فغضب بيتهوڤن بشدة، وقام إلى السيمفونية ومزقها، واتهم نابليون بأنه مثل غيره، يسعى لمجده الشخصي، ولبناء سلطان له فوق حقوق الناس.
لاحقاً خرجت السيمفونية الثالثة، لكن باسم "سيمفونية البطولة- في ذكرى رجل عظيم". إلا أن كل هذا لم يكن يعني أن تذيب النخبة المخملية الفوارق، فتسمح له بالحب والزواج من بناتها!
هذا ما عرفه الناس بعد وفاة بيتهوڤن في الـ26 من مارس/آذار عام 1827، حين عثروا على رسائل في خزانته، تحوي عصارة قلبه وتحكي عذاباته. كانت كل رسائله معنونة بـ"إلى الحبيبة الخالدة"، ويبدو أنها ظلت حبيسة أدراجه، ولم يرسلها أبداً، فظن بعض الباحثين أنها إلى امرأة خيالية، مثالية، ملهمة لألحانه وموسيقاه، لكنها ليست موجودة في الواقع.
مَن الحبيبة الخالدة؟
لن تجد إجابة واحدة!
سيخبرك المؤرخون أنها ربما كانت الكونتيسة "جولييتا جيجاردي"، الشابة الصغيرة، التي كان بيتهوڤن يعلمها الموسيقى، وهي في عمر الـ16.
كانت شابة يافعة جميلة، ممتلئة بالدلال والأنوثة، ويبدو أنها عشقت عبقرية بيتهوڤن الفنية مثل حال غيرها، لكن مَن بيتهوڤن؟ شخص من العامة، لا مال ولا لقب عائلة ولا منصباً مرموقاً، بل هو شخص حاد المزاج، وله أحوال عجيبة، فكان من البديهي أن يتوقع المؤرخون عدم استمرار هذه العلاقة.
تحدث بيتهوڤن عن حبه لجولييتا في رسالة أرسلها لصديقه فرانس واجلر، ويُقال إنه ربما أهداها سوناتا بيانو رقم 14، المعروفة بـ"سوناتا ضوء القمر".
أم هل كانت چوزفين برانسڤيك، كبرى بنات الكونتيسة آنا برانسڤيك؟ التي كان بيتهوڤن يعطيها دروساً في البيانو، ويبدو أن قلبه تعلَّق بها، ويُرجح كثير من كتاب السير والمؤرخين أن چوزفين هي الحبيبة الخالدة، حتى بعد أن زوجتها والدتها الكونتيسة آنا من الكونت فون ديم عام 1800، ظل بيتهوڤن يزورها بحجة تعليمها الموسيقى، إلى أن توفي زوجها عام 1804، لتعود علاقتهما وتتعمق من جديد، ويقول المؤرخون إن بيتهوڤن كتب من 1804 وحتى 1807 أكثر من 15 رسالة حب.
لكن چوزفين عادت وتزوجت مرة أخرى عام 1810 من البارون فون ستاكلبرج، ربما لأنها خشيت أن تُسحب منها حضانة أطفالها إذا تزوجت رجلاً من عامة الشعب، وربما لأن بيتهوڤن لم يكن جاداً في الزواج منها أيضاً.
لكن على أية حال، استمرت علاقتهما لسنوات طويلة، رشحتها في نظر المؤرخين لتكون بطلته وحبيبته الخالدة، دون غيرها.
وفي عام 1812، تعرَّف بيتهوڤن إلى تيريز مالڤاتي، ويُقال إنها ابنة أحد أطبائه، كانت في الثامنة عشرة وقتها، ويرجح المؤرخون أنه ربما نشأت بينهما علاقة ما، وأنه أهداها مقطوعته "من أجل إليزا"، وهناك احتمال أنه تقدم لخطبتها، لكن طلبه قوبل بالرفض من قبل عائلتها، فقد كانت في الـ18، وكان هو في الـ39 من عمره.
لكن قصة تيريز محل خلاف بين المؤرخين، مثلها مثل قصته مع "تيريز برانسڤيك" شقيقة چوزفين، التي يُقال إنه عُثر على مقطوعة "من أجل إليزا" بحوزتها، بعد وفاة بيتهوڤن؛ ما يجعل بعض المؤرخين يعتقدون أنها كانت المعنية وليست مالڤاتي!
وقد تكون أنتوني برنتانو، ابنة الدبلوماسي النمساوي يوهان ملكيور، أو الكونتيسة آن ماري ايردودي، التي كانت تقيم كثيراً من الحفلات في منزلها، فكان بيتهوڤن يعزف دائماً فيها، ويُقال إن علاقتهما توطدت خلال ذلك، لا أحد يعرف على وجه الدقة.
ويذهب بعضهم إلى أن كل هذه العلاقات نشأت بالفعل، وأن بيتهوڤن كان رجلاً سريع الوقوع في الحب، ولأنه كان محاطاً دائماً بنساء الطبقة المخملية؛ كان يرتد حبه دائماً إلى قلبه بسبب الفروق الطبقية.
فهل كان بيتهوڤن شخصاً مريضاً معذباً، عذبه الحب وخيباته المتتالية؟ أم رجلاً غريب الأطوار، متقلب المزاج، تحتل الموسيقى المرتبة الأولى في حياته، ولا تسمح بوجود شريكة أخرى تزاحمها في قلبه؟ فيذهب قلبه خلف هذه وتلك، لتُترجم مشاعره إلى روائع موسيقية تُخلد وحدها دون الحبيبة!
وكالات