ما الخطة الموضوعة لجذب الاستثمار لإعادة الإعمار؟ واقع الاستثمار..بين عدم القدرة على التنبؤ الاقتصادي والفساد وضعف النظام القانوني
والأرباح المتوقعة من الاستثمار، ويرفع من تكلفة ممارسة الأعمال التجارية والاستثمارية، لذا من الأهمية إزالة عوائق الدخول والقيود التنظيمية للتخفيف من ارتفاع أثرها على التجارة والاستثمار والتكاليف المحلية وتسهيل الإجراءات الجمركية، وهذا ما يشغل عقول المستثمرين ويجعلهم يحجمون عن الاستثمار في وجود هذه المعوقات.
بلغت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر قبل الحرب على سورية نحو 77 مليار ل.س، بما يعادل نحو 1.54 مليار دولار أميركي دولار، وذلك في عام 2010، (وفق مسح هيئة الاستثمار السورية)، حيث توزعت مشروعات الاستثمار على الصناعات التحويلية (النفط والغاز بأكثر من 60 بالمئة) والعقارات والقطاع المالي، وكانت سورية شهدت ارتفاعاً في صافي تدفق الاستثمار الخارجي المباشر، إذ حصلت على المرتبة الثامنة بقائمة الدول المضيفة للاستثمار الأجنبي المباشر في الدول العربية المؤلفة من 12 دولة عربية.
إلا أن هناك عوامل فنية وإجرائية وإدارية عديدة أعاقت الاستثمار ما قبل الحرب، وحالياً، ما أدى إلى انخفاض ملحوظ في عدد مشروعات الاستثمار، من أبرز تلك المعوقات؛ عدم اليقين لدى شركات الاستثمار، المحلية أو الأجنبية، في المجالات المختلفة، ما شكل عائقاً أمام نمو الاستثمار وتقدير الأرباح المستقبلية لهذه الشركات، إضافة إلى ضعف نظام تسوية المنازعات والتحكيم، والمدفوعات غير الرسمية من أهم المعوقات والفساد، وكذلك ارتفاع حواجز الدخول والخروج للشركات ما حد من المنافسة والابتكار.
إضافة إلى مشكلات تتعلق بتوفير الطاقة الكهربائية ومشتقات النفط بكل الأوقات، إضافة إلى التكاليف الاقتصادية المرتفعة للتجارة ووجود عوائق إدارية أمام الصادرات، بالترافق مع التقلبات الكبيرة والسريعة في سعر صرف الدولار أمام الليرة السورية، وبالتالي ارتفاع أسعار الخدمات من الطاقة والكهرباء والمياه، أمام قطاع الأعمال، إضافة إلى ارتفاع تكاليف مستويات المعيشة.
ومن العوائق صعوبة تنقلات اليد العاملة إلى مواقع وأماكن العمل، بسبب ظروف الحرب، وهجرة الكفاءات العلمية واليد العاملة الخبيرة والفنية من الاختصاصات العلمية والمهنية والفنية، ما أدى إلى تراجع مستوى وقيمة المشروعات الاستثمارية وارتفاع تكاليفها الاستثمارية، إضافة إلى وجود فروق تنموية بين المدن والمحافظات السورية من حيث المشروعات الاستثمارية وفرص العمل ومستلزمات الإنتاج والموارد الاقتصادية التي تتمتع فيها هذه المدن.
لذا، تراجعت كثيراً مساهمة المشروعات الاستثمارية خلال الأزمة وزادت تكلفة فرصة العمل الواحدة بسبب تراجع الاستثمارات الخارجية (العربية والأجنبية)، كما أن مشروعات الاستثمار الخارجي المباشر تراجعت إلى 361 مليون دولار عام (2012) وإلى حدود قياسية منخفضة أكثر حاليا، علماً بأن ضعف نمو الاستثمار بشكل عام والاستثمار الأجنبي المباشر بشكل خاص له آثار سلبية في الناتج المحلي الإجمالي لأن نجاح المشروعات الاستثمارية من شأنها أن تدعم الصادرات ومنه نمو الفائض في الحساب التجاري، وزيادة الفائض في الحساب الجاري في ميزان المدفوعات وبالتالي يكون أثره مزدوجاً في الناتج المحلي، كما أن ضعف الاستثمارات الأجنبية لها آثار سلبية في ميزان المدفوعات لأن الاستثمار الأجنبي المباشر هو أحد المكونات الأكثر أهمية في الحساب الرأسمالي والمالي.
الإجراءات الفعلية المتخذة
صدرت بعض التشريعات والتعليمات في بداية الحرب لتشجيع الاستثمار أهمها إصدار مرسوم بتأسيس شركات تأجير تمويلي على شكل شركات مساهمة، وتحرير الحساب الجاري وخاصة تحرير عمليات الاستيراد التصدير، والسماح للمصارف المرخصة بتمويل كامل مستوردات القطاعين الخاص والمشترك، إضافة إلى السماح للمقيمين وغير المقيمين بفتح حسابات بالعملات الأجنبية بأحد المصارف المرخصة، علاوة على البدء التدريجي بتحرير الحساب الرأسمالي وتشجيع الاستثمارات الأجنبية المباشرة وتمكين المستثمرين من الحصول على قرض بالعملة الأجنبية من أي مصرف خارجي لمصلحة مشروع الاستثمار سواءً على شكل مبالغ بالعملة الأجنبية أو على شكل مقدمات عينية، ومن ثم تسديد هذا القرض وفوائده عن طريق المصارف السورية. إلا أن الحرب ألقت بظلالها الثقيلة على تلك الإجراءات التشجيعية وأبدلتها بإجراءات تقييدية تتعلق بتخصيص القطع الأجنبي للاستثمارات وآلية تمويل المستوردات الأساسية والكمالية، وما رافقتها من تقييد السماحيات للاستيراد للمواد غير الأساسية.
متطلبات الاستثمار لمرحلة الإعمار
إذا كان هدفنا في المرحلة القادمة هو الاستثمار وتحسين بيئة الاستثمار السورية وتشجيع رأس المال (المحلي والخارجي المغترب خاصة) للدخول بقوة إلى السوق السورية، فمن الضروري تبني أن يكون الاستثمار محركا ودافعا للتنمية الاقتصادية المستدامة من أجل زيادة معدل نمو الاستثمار ومعدلات النمو الاقتصادي، ووفق منح الدعم الحكومي اللامحدود حالياً والموعود به قطاع الاستثمار ليكون استثمارا ناجحاً، وفق ما أشار إليه ملتقى رجال الأعمال الرابع بعنوان (المحفزات الاستثمارية في مرحلة ما بعد الحرب) المنعقد نهاية الشهر الماضي، الذي يركز على وجود تشريع موحد وواضح ثم مرجعية واضحة وضامنة ومستثمر جاد ذي حيادية، إلا أن هذا يتطلب أيضاً توفير مقومات مناخ الاستثمار المواتي والجاذب والتفكيرالإستراتيجي في تحديد واختيار القطاعات الاقتصادية ذات الاولوية لتكون محركا للتنمية الاقتصادية وجذب مشروعات الاستثمارالمطلوبة، وكذلك جعل سورية (مرفأ للاستثمار الخارجي والنقل البحري في المنطقة الساحلية بمواردها البحرية وغير البحرية) يستدعي ضرورة التركيز على تطوير البنية التحتية للمرافئ والسياحة والخدمات لتكون أسعارها وجودتها وخدماتها تنافسية مع البلدان المجاورة خاصة مع التدمير الكلي والجزئي للبنى التحتية للمدن والقرى أثناء الحرب.
كذلك البيئة الاقتصادية المواتية للاستثمار كهدف وطني للمرحلة القادمة تتضمن استقراراً لسعر صرف الليرة السورية مقابل العملات الأجنبية خاصة مع ضخ استثمارات كبيرة للبنى التحتية، ووجود مناطق صناعية متطورة، وعموما مناخ استثماري مستقر نسبياً، ومؤشرات اقتصاد كلي مقبولة ومعدلات نمو اقتصادي ايجابية ومقبولة، ومعدل تضخم لا يتجاوز الخانة العشرية، وأسعار سلع وخدمات مضبوطة وغير مرتفعة، ومعدل بطالة لا يتجاوز 10 بالمئة، وضمان ارتفاع معدل نمو استثمار القطاع الخاص لأكثر من 60 بالمئة وهي النسبة التي بلغها قبل الحرب.
جذب الاستثمار لإعادة الإعمار
إن الاقتصاد السوري لمرحلة إعادة الإعمار وما بعد الحرب يتطلب المزيد من دخول الاستثمار الأجنبي المباشر، وذلك في وضع تراجع الإنتاج النفطي بسنوات الأزمة بشكل واضح (من إنتاج 400 ألف برميل في عام 2006 إلى 385 ألف برميل يومياً في عام 2010 وإلى /16/ ألف برميل يوميا في عام 2017) وازداد العجز في الموازنة العامة للدولة وانخفضت الاستثمارات، من أجل العمل على الاستفادة من الموارد والإمكانات الهامة المتاحة حالياً التي تملكها سورية والتي هي ذات مردودية عالية مثل (السياحة – الزيتون – القمح – القطن- الطاقة بكافة أنواعها- الموارد البحرية وغير البحرية…).
لهذا من الضروري العمل على استقطاب المشروعات الاستثمارية الإستراتيجية ذات التنمية المستدامة وإعداد الأرضية اللازمة لدخول رأس المال الأجنبي من خلال بناء شراكات تجارية، ومن هنا فإن آلية جذب واستقطاب الاستثمار تتم عبر التأكيد على أولوية الاستثمار في القطاعات الواعدة لتحقيق عوائد سريعة ومنافع واسعة، وأهمها تطوير البنية التحتية لتلبية الاحتياجات الصناعية والإنتاجية ذات المردود العالي، وتقديم المزيد من الإصلاحات لتعزيز المناخ الاستثماري الملائم لجذب الاستثمار الخارجي المباشر وتسهيل بيئة الأعمال للقطاع الخاص الوطني، والتأكيد على دور الصناعة التحويلية في عملية النمو الاقتصادي المستدام وتوفير فرص العمل، وتحسين الميزان التجاري.
إضافةً إلى العمل على زيادة الإنتاج والإنتاجية من خلال الترويج لاستخدام التكنولوجيا الملائمة وذات التكاليف الرخيصة لتطوير المنشآت الصغيرة والمتوسطة لزيادة مساهمتها في الاستثمار والنمو الاقتصادي المستدام، والاهتمام بتفعيل الاستثمار المحلي في مرحلة إعادة الإعمار والتشاركية وتفعيله مع كافة القطاعات في المجتمع، وجذب الاستثمار الأجنبي في القطاعات الواعدة، وخاصة تمويل الاستثمار المحلي من المغتربين (وتشجيع رأس المال الخارجي بما فيه رأس المال السوري المغترب للدخول إلى السوق السورية) وبناء مجتمع تشاركي مع القطاع الخاص والأهلي والشركاء الإستراتيجيين في تمويل وتنفيذ مشروعات إعادة الإعمار، من خلال تشجيع الاستثمار الأجنبي في القطاعات والنشاطات ذات الأولوية لتحديد القطاعات ذات الأولوية والمحققة لشروط النمو والارتقاء الإنتاجي والتكنولوجي، ومن ثم دعوة المستثمرين للمشاركة بهذه الاستثمارات، وقد توقع تقرير هيئة الاستثمار لعام 2015 إلى أن تدفق 1.5 مليار دولار من الاستثمار الأجنبي المباشر في سورية لفترة إعادة الإعمار يعتبر مؤشراً معقولا مقارنة باقتصاديات بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وغيرها، إلا أنه برأينا التدفق المطلوب للاستثمار كهدف وطني يتطلب جذب أكثر من هذا المبلغ.
والمطلوب أيضاً إعادة الاستقرار الاقتصادي ودفع عملية تعزيز الاستثمار والترابطات القطاعية بما يعزز عملية التعافي وإنعاش الاقتصاد، ويدفع عجلة الاقتصاد ويسهم بزيادة معدلات التشغيل وتوجيهه نحو النمو الاقتصادي المستدام، وتوحيد قوانين وتشريعات الاستثمار وربط الحوافز بأولويات الاستثمار واعتماد استخدام نسب معينة من المدخلات المحلية لتشجيع المنتج المحلي، ونشر الفرص الاستثمارية المتاحة والمشروعات المطروحة للاستثمار المباشر وتحديثها مع المستجدات بشكل دائم سواء في المدن الصناعية أو في المدن الرئيسية وتأمين كافة المواصفات الخاصة بها لتكون جاهزة للاستثمار مباشرة، وهنا نود الإشارة إلى أن هناك العديد من المشروعات المطروحة للاستثمار المباشر في المدن الصناعية من هيئة الاستثمار وتفعيل خريطة الاستثمار والاستثمارات الصديقة للبيئة.
يتم ذلك بالترافق مع تهيئة البنية التشريعية الموحدة لتشريعات الاستثمار وقانون موحد للاستثمار ومراعاة نفاذ قوانين حماية الملكية واستثمار براءات الاختراع، وتطوير خدمات المدن الرئيسية والمناطق الصناعية وانشاء العناقيد الصناعية، واستكمال بناء بيئة استثمارية صديقة للاستثمار ووضع آليات فعالة للتواصل مع المغتربين وحل مشكلاتهم الاستثمارية والتمويلية، وان استمارة (البحث عن شريك) التي عرضتها هيئة الاستثمار في ملتقى رجال الأعمال الرابع لابد من أن تسهم في حلول مبتكرة لهذه المشكلات، وهذا بالتالي يؤدي إلى تمكين المستثمر السوري سواء المحلي أو المستثمر المغترب من بناء شراكات قوية بسهولة ودون إجراءات طويلة ومعقدة عبر تشجيع التشاركية مع القطاع الخاص ومع المغتربين للدخول في استثمارات جديدة وإنتاج منتجات ذات قيمة مضافة عالية وصديقة للبيئة وتوفير فرص عمل متنوعة وجديدة، مع أهمية تقديم الدعم اللوجستي والتسهيلات للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، وتفعيل مشروعات التطوير العقاري والإيجارة التمويلية للاستثمار في قطاع الأعمال، وتطوير إدارة المرافق الحيوية وخاصة المرافئ، وتحسين خدمات التوضيب والشحن والنقل والتسليم، وهي ما نؤكد عليه مجدداً بتحقيق الاستثمار كهدف وطني من جهة وجعل سورية مرفأ خارجياً من جهة ثانية.
وأخيراً، يمكن القول إن عدم القدرة على التنبؤ الاقتصادي والفساد وضعف النظام القانوني؛ يخفض عادة من عوائد الاستثمار والأرباح المتوقعة من الاستثمار، ويرفع من تكلفة ممارسة الأعمال التجارية والاستثمارية، لذا من الأهمية إزالة عوائق الدخول والقيود التنظيمية للتخفيف من ارتفاع أثرها على التجارة والاستثمار والتكاليف المحلية وتسهيل الإجراءات الجمركية، وهذا ما يشغل عقول المستثمرين ويجعلهم يحجمون عن الاستثمار في وجود هذه المعوقات.
الوطن