الشعر الحالم يحول ظواهر العالم الواقعي إلى رموز لعالم آخر
مدخل إلى الحياة الأدبية في القرن التاسع عشر، كتاب صدر حديثاً عن وزارة الثقافة، والهيئة السورية للكتاب، تأليف جان إيف تادييه، وترجمة الدكتور عبد الهادي صالحة، جاء الكتاب في ثلاثة أجزاء هي: إثبات الفرد، غزو ورفض العالم، مجال المتخيل، واحتوى كل جزء على فصول عدة منها: الأنا، البطل، التاريخ، العلم، الحلم، ولغة ورمز.
إن القرن التاسع عشر الأدبي هو فترة فيض لا تتوافق مع عرض تسلسلي، فقد نشر جان إيف تادييه، عندما اهتم بما يوحد الأجيال أكثر من اهتمامه بما يفصلهم، المواضيع المشتركة بين «شاتوبريان ومالارميه، وبين كونستان وجيد».
إن التأكيد على الفرد كردة فعل ضد شأن اقتصادي واجتماعي يتجاوزه، وظهور قوى شعبية كفاعل، وتقدمات علمية كنماذج، والحضور الهاجسي للمتخيل.. تلك هي الأفكار التي تبني الحياة الأدبية للقرن التاسع عشر.
وفيها وراء الأجناس والتقسيم إلى مدارس، هناك ثابتتان أساسيتان تفرضان نفسيهما، الأولى هي رغبة وحدانية تقوم على البحث عن توليفة قادرة على تلخيص التاريخ الإنساني. والثابتة الثانية تكمن في «تمرد على الواقع»، خلق من خلال تكاثر الأشكال الجديدة «لغة بروميثوسية».
يظهر الجزء الأول الذي جاء تحت عنوان «إثبات الفرد»، كيف أن هذا العصر هو أولاً الذي يثبت فيه الفرد ذاته، كردة فعل على تطور اقتصادي واجتماعي يتجاوزه أو يسحقه، إن «عبدة الأنا»، في أجناس أدبية متنوعة تتيح تحديد نفسيته، وتخلق بعض أنماط معينة من الأبطال، أو الأبطال المضادين، وإن الطبيعة، كملجأ، كهروب أو رؤية، هي المتمم الإجباري لعدم الرضى الإنساني، واحتوى الجزء الأول ثلاثة فصول: الأنا، البطل، الإنسان والطبيعة.
الإنسان والطبيعة
يجد الوعي الشقي لإنسان القرن التاسع عشر في الطبيعة غذاءً وملاذاً وعذاباً، إن العزلة تجمع عالم الأشياء مع البطل الذي يجد نفسه فريسة لمرض العصر، وتحمل الطبيعة للإنسان سعادة مؤقتة، أو ترجعه مثل «فيني وبودلير» إلى قلقه، إن التآلف مع الطبيعة يحس به في الحاضر، أو تجدده الذاكرة، فبعض المشاهد الأدبية الأكثر جمالاً هي ذكريات، ولكن المشهد الفرنسي لا يرضي جميع فناني العصر، في أي عصر آخر للكتّاب الكبار، وأخيراً يتفتح شعور الطبيعة عند بعضهم في رؤية كونية تتجاوز الكوكب لتمتد إلى الكون.
أما الجزء الثاني الذي جاء بعنوان «غزو ورفض العالم»، فيستعرض الطرق التي من خلالها يغزو عالم جديد الأدب، ويصل للمرة الأولى، في بعض الحالات، إلى مستوى المواضيع: فالشعب، والريف، والمدينة لم تعد محصورة في الجنس الكوميدي، وإن تقدم العلوم ساهم بتوسع، ليس فضائياً فقط، بل زماني: هذا هو معنى التاريخ، واحتوى الجزء الثاني عدة فصول هي: عالم الناس- شعب ومدينة، التاريخ، العلم.
التاريخ
ألهم البحث عن الوحدة في الفضاء ظهور المؤلفات ذات الطابع الاجتماعي، وربما هذا هو البحث ذاته، ولكن في الزمن الذي أملى على عصر بأكمله هواه للتاريخ «إن التاريخ هو شكل فكري جديد: فبدلاً من الأنساب والملوك المصنفين بأعراق وبتجميع مذكرات بطولية، ما المراجعة التي عملوا عليها جميعاً؟ لقد قدم الماضي للمعنيين بالأدب مواضيع وضمانة عظيمة: قدم جواهر. إن الرواية والمسرح والشعر في القرن التاسع عشر لم تجد في التاريخ أحداثاً فقط، أو ديكوراً لا بل اتخذته موضوعاً.
الجزء الثالث كان بعنوان «مجال المتخيل»، ربما لم يعرف الغنى ذاته الذي عرفه في ألمانيا، ما يستدعي دراسة الحلم، وعلاقات اللغة والرمز، ولنختم بالقول: إن خلق أساطير، وتطوير أدب خارق للواقع، وريادة العالم الآخر، كانت الإسهامات الأكثر أصالة للعصر. ومن بين فصول هذا الجزء: الحلم، لغة ورمز، أسطورة، خارق للواقع، العالم الآخر.
الحلم
إن الإسهام الأساسي للقرن التاسع عشر في الأدب الفرنسي هو البحث عن دلالات العالم في الحلم والأسطورة والرمز، أكثر ممّا هو بوحٌ عاطفيُّ أو جردة حساب ذات مزاعم واقعيةٍ وعلميّةٍ، إن النقد الذي كان مفتوناً بالشعور وبمعرفة القلب الإنسانيّ تجاهل طويلاً ما كان يدين به الأدب الفرنسي للحلم، إذ كان لابدّ من وجود السوريالية التي كانت تعيد بناء تاريخ العصور الماضية لمصلحتها، من خلال البحث عن رواد، والكتاب الجميل لألبير بيغان «النفس الرومانسية والحلم» كان لابدّ منه للفت نظر القراء إلى هذا الحوار الطويل بين الحلم وحياة اليقظة التي بعثت الحياة ونهضت بعصر كامل.
لغة ورمز
إن العلاقة بين الحلم والرمز هي علاقة مزدوجة، ففي الحلم كل شيء هو عبارة عن رمز، ويحيل إلى دلالة، وبالمقابل فإن الشعر الحالم يحول ظواهر العالم الواقعي إلى رموز لعالم آخر، ولكن التعبير الرمزي للعالم والتعبير عن العلامات الحلمية ليسا ممكنين إلا على حساب العمل على اللغة التي هي أحد الملامح الأكثر حداثة- يعني الأكثر حياة- للقرن التاسع عشر.