حين نقرأ التاريخ ونغفل مفاصل التحليل! … الناصر صلاح الدين بعد قتال عُمْر قسم الدولة على أولاده .. أمر ابنه الظاهر بقتل الشهاب السهروردي لا محالة ففعل!
في بعض وقت فراغ، وما أقله، في انشغال دائم، عدت لأقرأ طرفاً من التاريخ، وبدأت قراءة (البداية والنهاية) للعلامة الدمشقي ابن كثير بعد أن تطاول الزمن بيني وبين قراءتي الأولى للكتاب، وابن كثير هو من هو في التأريخ والتفسير، وعنّ لي أن أقرأ بتمهل وفاة صلاح الدين يوسف بن أيوب الملك الناصر، وهذه القراءة تبتعد عن قراءات أدبية أو شعارات ترفع، أو فكرة البحث عن بطل ومخلّص، أو التغني بظاهر أمر وإهمال التفاصيل، وقد استرعى انتباهي في الحديث عن وفاته أمور عدة أقف عندها، ففي سنة 589 هـ يذكر ابن الأثير أنها دخلت والسلطان صلاح الدين في غاية الصحة والسلامة، وخرج هو وأخوه العادل إلى الصيد شرقي دمشق.. ثم إنه اعتراه حمى صفراوية ليلة السبت سادس عشر صفر.. ثم تزايد به المرض واستمر، ثم اعتراه يبس وحصل له عَرَق شديد بحيث نفذ إلى الأرض، ثم اشتد به الحال ليلة الأربعاء السابع والعشرين من صفر، واستدعى الشيخ أبا جعفر إمام الكلاسة ليبيت عنده يقرأ القرآن، ويلقنه الشهادة إذا جدّ به الأمر.. فلما قرأ القارئ (فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) تبسم وتهلل وأسلم روحه إلى ربه سبحانه، ومات رحمه الله، وكان له من العمر سبع وخمسون سنة.. أولاد ومملكة هكذا يرسم ابن كثير لحظات وفاة السلطان صلاح الدين الأيوبي، ويذكر حزن دمشق وأهلها عليه، ووصل الأمر بهم أنهم تمنوا لو افتدوه بأنفسهم وأرزاقهم وأولادهم لحبهم له.. الذي يسترعي الانتباه أن هذا السلطان ولد بتكريت، وأولاده الكثيرون ولدوا في مصر ودمشق ومنهم الإخوة والأشقاء، وتوفي في دمشق ودفن فيها، وحين نقرأ هذه الترجمة وإشادة ابن كثير ومعاصريه بالسلطان الناصر، فإن ذلك يستدر التعاطف، ويعطي صورة عن زمن يتحرك فيه السلطان بين البلدان دون نظر إلى انتمائه وموطنه وقوميته، المهم أن يكون قادراً وحريصاً على علاقة مع رعيته وقادته وجنده. ينقل ابن كثير وهو الحافظ بعض القضايا التي تستحق الوقوف، أولها المبالغة في تصوير حب الناس وحرصهم في الرغبة بافتداء سلطانهم، وثانيها المبالغة غير المحمودة للشعراء والأدباء في رثائه والبكاء عليه، وحين نقرأ أبياتاً للعماد الكاتب في رثائه، نقلها ابن كثير الدمشقي عن كتاب (الروضتين) لأبي شامة يتملكنا العجب من تعلق الناس بالرمز، ومن تصويرهم لمكانته وكأن الدنيا انهارت برحيله (الدهرُ ساء وأقلعت حسناته، أين الذي كانت له طاعاتنا، لله خالصة صفت نياته، أين الذي شرف الزمان بفضله، من للعلى من للذرى من للهدى يحميه، بحر أعاد البر بحراً برّه..) وما شابه ذلك من تعابير في مقطعين شعريين للشاعر نفسه تبدو الدنيا منهارة بعد الملك الناصر، ويبدو فيها الملك الناصر تجسيداً لمشيئة الإله في الأرض، إن لم نقل فوق ذلك من صور ممجوجة مرفوضة من المبالغة، مع أن الفكر يقتضي بأن رحيل الشخص مهما سما هو أمر عادي، لكن شريطة أن يكون قد أرسى دعائم مهمة، فالسلطان ما بين أخ وابن، وقد بقي من أولاده الذكور بعده سبعة عشر ذكراً غير الذين ماتوا في حياته، ما بين هؤلاء وقادته أمضى حياته، مع ما فيها من جهاد وقتال ودفاع وتوحيد للأرض العربية، ويذكر ابن كثير أنه في مطلع سنة وفاته كانت نيته التوجه لغزو أذربيجان، لأنه ما من أحد يدافع عنها، وستكون سهلة بين يديه، لكن وفاته لم تعطه الفرصة لهذه المعارك والفتوح. لم يترك شيئاً أما عندما يتحدث عن تركته وفضائله فيقول لم يترك في خزانته من الذهب سوى جرم واحد، أي دينار واحد، وقال غيره سبعة وأربعين درهماً، ولم يترك داراً ولا عقاراً ولا مزرعة ولا بستاناً، ولا شيئاً من أنواع الأملاك.. وكأن سلطاناً بهذه المكانة يجب ألا يترك داراً أو مالاً، فالعرب يحاولون دوماً تبرئة من يريدون بتبرئة ذمته، ولو كان هذا الأمر ليس تحت اليد، ولا دليلاً عليه! وقراءة التاريخ تستوجب ألا تكون القراءة اعتباطاً، أو من العناوين، أو من رؤوس فقرات تروق للكاتب والقارئ.. وإذا تابعنا في الصفحة التي تلي سنقرأ قول ابن كثير: وإنما لم يخلف أموالاً ولا أملاكاً لجوده وكرمه وإحسانه إلى أمرائه وغيرهم! ألا يدفعنا هذا لتحرير الرؤية من الحكم الإنشائي العام؟ فهو لم يترك أموالاً، ليس لأنه لم يجمع الأموال، وليس لأن وجوه سعادة المجتمع والرعية كانت همه، بل لأنه كان جواداً ومحسناً، وجاءت عبارة ابن كثير دقيقة غاية الدقة، فإحسانه إلى أمرائه وغيرهم، وإلى أعدائه، فأمراء السلطان صلاح الدين هم الذين كانوا ينالون إحسانه وجوده وبرّه، في خلق بذلك طبقة من البطانة التي ضمن ولاءها، وطّد الحكم بها! فإذا كان الجود والإحسان على الأمراء والقادة والجند فما قيمة هذا الجود؟! وبالتالي ما قيمة هذا الزهد؟ ويبث ابن كثير فضائل عديدة للناصر عن حب لسماع القرآن والحديث الشريف، وكأن في حياته ولغته مشكلة، لذلك أخذ الدفاع عن هذه الفضائل مساحة طويلة، وكأنه مرافعة أمام اتهام! وكأن القائد بمستوى السلطان الناصر لا يكفيه أن يكون قائداً ومقداماً ومحنكاً وعادلاً، بل لابد برأي المؤرخين من الشهادة بالتقى والصلاح وكأنها من لوازم الأمر! وفي شخصيات كثيرة كان نزع هذه الفضائل كفيلاً بإدانتها مع أنها ليست ضرورة. تفرقة المجموع وبعد رحلة طويلة من القتال والاستنزاف، وقبل رحيل صلاح الدين قام بتقسيم ما جمعه ولست أدري كيف يتم المرور على هذه القضايا ببساطة مطلقة، وكأن الشهادة للشخص بحب سماع القرآن والحديث، وبأن له مشاركة تعفي من قضايا أكثر خطورة، ولننظر ونقرأ ما كتبه ابن كثير بالحرف ودون أن يعقب بكلمة، فبعد أن يشهد بسيرته وأيامه وعدله نقلاً عن أبي شامة يقول: وكان قد قسم البلاد بين أولاده، فالديار المصرية لولده العزيز عماد الدين أبي الفتح، ودمشق وما حولها لولده الأفضل نور الدين علي، والمملكة الحلبية لولده الظاهر غازي، ولأخيه العادل الكرك والشوبك وبلاد جعبر وبلدان كثير قاطع الفرات، وحماة ومعاملة أخرى معها للملك المنصور ابن أخي السلطان، وحمص والرحبة وغيرها لأسد الدين بن شيركوه.. ثم شرعت الأمور بعد صلاح الدين تضطرب وتختلف في جميع هذه الممالك. أمضى صلاح الدين السلطان الناصر حياته ليجمع البلدان، ثم، وكما يذكر ابن كثير قسم البلاد، فهو من قسمها ولم يتم التقسيم بعد وفاته، وإذا ما ربطنا بين زهده وتركته، وبين إحسانه وجوده على أمرائه عرفنا مسيرة العدل والزهد.. فما الحاجة للمال والذهب، إن أعطى الحاكم ابنه وأميره وقادته بلداناً بتمامها؟! ومع كل ذلك نسمع الإشادة، ونرجو أن يأتي مخلص كما كان صلاح الدين في سيرته! قد يكون الأمر كما ذكر أبو شامة، وكما ذكر العماد، وكما نقل الحافظ ابن كثير، ولكن المطلوب منا أن نقرأ التاريخ قراءة سليمة، وفي هذه الوقفة لم أختر سوى حادثة وفاته متجاوزاً السرد الطويل لحياته المليئة بما يستحق الدرس سلباً أو إيجاباً، فالسلطان وأي سلطان ليس هو الأوحد والفرد والجود وكل هذه الصفات، لكن يبدو أن العقلية لدينا تبحث دوماً عن الراحة والكسل، وعمّن تحمله الأعباء والمهام.. قتل لامحالة أما ما يستوقف القارئ، ولا يمكن أن يمرّ مروراً عابراً، وقد ذكره المؤرخون بمعرض الإشادة، ويذكره ابن كثير مشيداً أيضاً، فهو خبر يحمل من الفظاعة والقسوة ما لا يمكن أن يستسيغه الإنسان، بل ويدخل في إطار القسوة والجبروت، وخاصة أن الخبر يمر مروراً عادياً ودون تسويغ، ولنقرأ ما قاله ابن كثير حرفياً والحديث عن السلطان: «وكان رقيق القلب سريع الدمعة عند سماع الحديث، وكان كثير التعظيم لشرائع الدين. كان قد صحب ولده الظاهر وهو بحلب شاب يقال له الشهاب السهروردي، وكان يعرف الكيمياء وشيئاً من الشعبذة، فافتتن به ولد السلطان الظاهر، وقربه وأحبه، وخالف فيه حملة الشرع، فكتب إليه السلطان أن يقتله لا محالة، فصلبه عن أمر والده وشهره، ويقال بل حبسه بين حيطين حتى مات كمداً، وذلك في سنة ست وثمانين وخمسمئة». كيف تجتمع رقة القلب مع القتل لا محالة؟ وكيف تجتمع سرعة الدمع خشية مع إرادة الصلب والتعذيب؟ وهل من باب التعظيم للشرع أن نقتل من رأينا أنه خالف حملة الشرع؟ أليس شيئاً يستحق الوقوف عنده؟ نحن أمام حاكم، والحاكم مسؤول عن الجميع، سواء كان من حملة الشرع أم لم يكونوا، سواء اتفق معهم أم خالفهم، وليس مقبولاً للحاكم أن يفعل ما فعله السلطان برفيق ولده لأنه خاف على ولده ومن مخالفة حملة الشرع! يسرد ابن كثير الخبر بتسليم، ولو أن الخبر في كتاب محقق، فسنجد أن المحقق يضع حاشية يتحدث فيها عن زندقة الشهاب السهروردي، ويبالغ في القول، لا لشيء، إلا لأنه ينقل عن الكتب السابقة دون تمحيص أو تحرير، ويستغني عن المحاكمة العقلية، فرقة القلب، وسرعة الدمعة تبيح للسلطان أن يفعل ما يشاء بالسهروردي..! أما من سبيل غير القتل لا محالة؟ قد أكون مخطئاً فيما ذهبت إليه وقرأته، ولكنني في غمرة هروبي إلى الحرف من الحرب والثرثرة وجدتني أعيد قراءة البداية والنهاية، لأرتاح شيئاً ما، وفي هذه الصفحات يعود إليّ توازني عندما أستخلص أن العنف والقتل والصلب لكل من يخالف ليس جديداً، وأعرف أن تحالف السياسة والشرع يفعل ما لا يمكن أن يتخيله المرء، والمسوّغ الجاهز مخالفة حملة الشرع! قضى صلاح الدين حياته مقاتلاً مدافعاً محموداً سريع الدمعة رقيق القلب، لم يخلف مالاً، لكنه أمر بقتل السهروردي لا محالة، وقسم الدولة بين أولاده، وأكرم أمراءه وحاشيته، ومات مبتسماً والقرآن يقرأ عليه..! الوطن