أحرف العلة.. وعلل أخرى.. قصـص تقطــر ألمــاً.. وتنثــر الأمــل بيــادر حــب
لاتزال الحرب على سورية تقتات على أوجاع الناس، ولاتزال أوجاعها تفتك القلوب كما البلاد، خبط عشواء غير آبهة بالقلوب الصغيرة، أو بضعف رجل مسن ناله الزمن فلم تبق لديه غير رمق ينبض بالحياة.
هي الحكايات التي نعيشها كل يوم أين وجدنا، وكأن الألم يأبى أن يغادرنا بل يحط رحاله كل حين في تفاصيل حياتنا، ولكن رغم ذلك يبقى للأمل فسحة لولاها لما كان للعمر بقية.
الكاتب رسلان عودة رصد تلك الجراحات في قصص حملت عنوان «أحرف العلة، وعلل أخرى» يقول:
«أخيرا باحت لي بالسر امرأة متوسطة الطول والجمال وهي تعبر من رصيف إلى رصيف: البيض فاسد والدجاج عليل، ثم نصحتني باقتناء بياضة سليمة وديك لا يصيح كالمجنون عند الظهيرة.. وأكدت لها أنني جائع.. جائع لشيء ما أريده الآن، قالت كأنها تبكي من فمها: إننا في القرون العجاف ياأستاذ مسعود، حاولت العودة إلى بيتي، لكن مسعودا أبى الرجوع معي وظل سارحا هناك.. يبحث عن مسعود آخر، أقل فلسفة وأكثر جرأة».
تضم المجموعة أربعة عشرة قصة قصيرة منها «اللآلىء، الوسام، أهل الكهف، دم وزعتر، لوسي، وغيرها..» وفي قصة لوسي يحكي الكاتب معاناة اللاجىء الفلسطيني في لبنان، يقول: «خرجت الكلبة المحترمة من البوابة تكرج بدلال بين الأحذية.. تشد الحبل في رقبتها وتنظر نحوي، عيناها تقولان لي هيا اعبري، عيناي تبحثان عن هشام وتنظران إلى روحي في طائرة أخرى».
أما القصة «شال ليلى» فهي قصة في قصتين اجتماعيتين تتحدث واحدة منهما عن قهر المرأة في بعض المجتمعات العربية وردة فعلها في نيل حريتها، والقصة المتداخلة معها وهي على لسان الراوي الذي يروي أيضا قصته مع المرأة الأوروبية التي اختارت طريقا لحياتها بعيدا عنه «تحط يمامة المدينة على رأسه الحجري.. تنظر إلى ليلى وتنوح، تنقر شعره الصلب، ثم تلتقط تاجه الورقي وتطير.. يحوم الهدهد الأسود فوقهما، وينعق بشدة.. شال ليلى يرفرف على رقبة التمثال الحجري، وطفل الجيران يشير إلى الشال بإصبعه الصغيرة ويسأل أمه:
هل يبرد الحجر، قالت لي ميرنا قبل الرحيل: الدفء سر المرأة، أغلقت دكاني على خبز الليلة الماضية، وغادرت الحديقة لا أرفع رأسي عن الأرض، وأنا أسمع ضحكات الحجر تعلو وتعلو تحت ضربات فؤوسهم والمطارق».
وتبقى فلسطين وما يحدث فيها من قتل ووحشية واعتداء سافر على الأطفال، أكثر ما يحرض الكاتب على نقل تلك الصور بما تحمله من البشاعة والعنف، يقول الكاتب في قصة «غاب نهار آخر» يحكي قصة طفل من غزة بقي ثلاثة أيام بلياليها مع أمه القتيلة وأخيه الرضيع الذي مات في حضنها أثناء العدوان الصهيوني على غزة في نهاية عام 2008 «تابع الزحف إلى أمه وأخيه خوفا على خوف، هز كتفها من جديد، أظهر لها ما في يده، ماما هذه لك، لم تجبه، حرك جذعها بكل ما أبقى العطش والجوع فيه من قوة، وحين انقلبت الأم عن دمعها المتجمد، علم ناصر الآن ما الفرق بين الموت وبين النوم».
ويهدي قصته «كان يوما مطرا» إلى شهداء ثلاثة سقطوا في يوم ماطر على أرض الجولان المحتل حين اقتحمه المتظاهرون العزل واجتازوا دفاعاته الحصينة كما كان يشاع «فتحت الأخت الجيب الثاني من الحقيبة وأخرجت سلسلة فضية تتدلى منها خارطة فلسطين، طوقت رقبتها بالسلسلة وآثار دم أخيها متجمدة على إيقونة حنظلة الذي أدار وجهه من على صدرها وفتح لنا ذراعيه لأول مرة».
القصص جميعها تحكي أوجاعا ربما باتت لصيقة بنا لا تغادرنا في ظل هذه الحرب التي كل يوم نكتوي بنارها كما الفلسطيني والعراقي واليمني وغيره، بات الحزن القاسم المشترك بيننا بانتظار نصر نرجوه قريبا جدا.