رامبو قبل قرن ونصف القرن: هذا هو زمن القتلة
كنت أردد، في طريقي للقاء الزميلة هالة النابلسي شعراً يقول:
لا أعلم شيئاً عن النور
من أين يأتي
وإلى أين يمضي
كل ما أريد هو: نور ينير
الشعر هذا من مجموعة «أشعار الربان» للشاعر بابلو نيرودا الحائز جائزة نوبل عام 1970، والتي ترجمته هالة عام 1979، وقال عنها شاعر العروبة الكبير محمد الفيتوري: أجد الشعر يترجم شعراً، وستبقى العبارة مؤثرة في ترجمة هالة.
احتفظت بشعر نيرودا، منذ مطلع عملي الصحفي، وأعيد قراءته لأنه جمع نور الشاعر إلى نور المناضل، لكن ما جعلني أتوجه إلى مزيد من الاطلاع على إنتاج هالة الأدبي هو ما عرفته مؤخراً: أن هالة كرست 31 عاماً من عمرها لترجمة الأعمال الشعرية لشاعر فرنسا والبشرية الفذ آرثور رامبو. وحقيقة إضافية هي أننا بسبب ظروف الحرب التي نعيشها أصبحنا نجهل أحياناً ما ينتجه بعضنا من ثقافة.
إذاً ما أعرف أو نعرف عن هالة وليس بين بيتي وبيتها سوى بضعة أمتار.
أعرف هالة النابلسي الإعلامية والمترجمة والكاتبة المميزة ذات النظرة الذكية، والذهن المنفتح على معرفة الآخر والعالم. ولعل اختيار هالة لترجمة رامبو كانت نتيجة البيئة الثقافية في السبعينيات والثمانينيات، المرحلة التي اتسع منها الحراك، وإلقاء الأضواء على تجارب المجتمع الإنساني فكرية وتحررية وعلمانية وتنويرية. وكانت حلقاتها الثقافية معبرة عن جيل قبل أن تكون مكرسة لفرد، وحيث كان رامبو المولود قبل قرن ونصف القرن (1854-1891) رمزاً لكل إنسان يعيش الحرية ويبحث عن الخلاص البشري، حيث قال في عالم يتجه إلى التوحش الرأسمالي: هذا هو زمن القتلة..
تروي لي هالة، في لقائنا الأخير، حادثة تؤكد ما ذكرته سابقاً قائلة: في عام 1979 قدمت مجموعة (أشعار الربان) بكثير من الفرح والفخر للصديق الكبير الراحل محمد الماغوط وكانت المرة الأولى التي أترجم فيها شعراً، لكن الماغوط لم يترك لي تلك البهجة قائلاً: كثيرون ترجموا نيرودا، لماذا لا تترجمين أعمال رامبو فهي لم تترجم بالكامل؟!
وتابعت هالة: استهوتني الفكرة ولم أدرك آنذاك أنني إزاء عملاق رأيته صغيراً وهو داخل الزجاجة.. وباشرت العمل الذي ظننته لجهلي بكامل أعمال رامبو، سيكون سهلاً ولن يستغرق كثيراً من الوقت، لكنه أصبح مشروع هالة لمدة 31 عاماً أنجزت خلالها أعمالاً أخرى كثيرة، لكن رامبو ظل هاجسها الدائم: كان شعره ينسرب في داخلي ببطء ليعود فيولد من جديد محافظاً على قسماته وخصوصيته.
وفي الجواب على ماذا نعرف عن إنتاج هالة الأدبي؟! فقد عرفت أنها أمضت سنوات طويلة في ترجمة وكتابة أعمال مميزة، فقد ترجمت 24 كتاباً للأطفال، وكتبت قصصاً كثيرة لهم نشرتها في مجلات متخصصة، وترجمت عشرة كتب لدار عبيكان بين عامي 2001- 2003 أبرزها كتاب نيلسون مانديلا السيرة الموثقة، من تأليف الكاتب أنطوني سامبسون. وترجمت كتباً عديدة لدار الحوار اللبنانية بين عامي 2003- 2005 أبرزها كتاب الصين شركة كبرى وترجمت رواية للكاتب جنكيز إيتماتوف تحت عنوان: «لقاء مع ابن» وكتاباً عن الشاعرة الأميركية سوزان بوليتس بيتس. وهي تعمل الآن على إصدار كتاب من أشعارها الخاصة، وهكذا عرفت أن هالة لم تهدأ أو تتوقف عن العمل الأدبي طوال سنواتها الماضية.
النيزك
لم تتخل هالة عن مشروع عمرها، وهي تدرك سنة بعد سنة، وقصيدة إثر قصيدة. أهمية العمل الذي تنجزه، وصعوبة تمثل عالمه الشعري الذي تقاطعت فيه رموز الواقع والتاريخ والأسطورة في بحث رامبو عن الحرية والحقيقة والخلاص في الوجود البشري، وضرورة إيصال تكامل الإبداع في قصائده المركبة من: «التساؤل السياسي والفكري والشعري، حيث أفلت رامبو من قبضة القرن التاسع عشر ليكون الشاعر الأول لحضارة لم تظهر بعد».
وأنوه هنا أنني استعنت لأهمية رامبو بآراء كثير من الأدباء والمفكرين لا يتسع المقال لذكر مرجعيتهم كاملة..
وكان على هالة تقديم رامبو في كتابها كأبرز المتمردين في تاريخ البشرية، الذي اعتنق وابتكر صيغة «الحرية الحرة» وشارك وعبّر عن أفكار وأحداث «كومونة باريس» الثائرة على الملكية الفرنسية والاستعمار الألماني بين عامي 1870 – 1871 وحيث كان هو النيزك، كما أطلق عليه الشاعر الفرنسي الكبير مالارميه، الذي قام بعبور ظافر، واختراق متحد لجميع الأشكال والصيغ الوجودية والشعرية في العالم.
إذاً أي تحد فكري كبير تصدت له هالة وهي تترجم رامبو الذي «وجد نفسه في قلب مخاض الإنسانية الجديدة، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر التي ستولد من التقدم العلمي والتكنولوجي، والزحف الاستعماري، فأصر على فهم كل شيء، وألقى نظرة أسف على عالم يتقدم في الاتجاه الخاطئ ويسير إلى استعباد جديد، أفكار تتقاطع في ظروف عالمنا الحالية..
وأي صعوبات تقنية لترجمة رامبو تجاوزتها هالة، وسط أجواء ثقافية عربية شحيحة المعلومات مجتزأة الأفكار والقصائد، وحيث لا مراجع ولا مرجعيات كاملة، وهي للمترجم العربي نوع من الإنشاء الجديد، أو البداية من الصفر، ومن الواضح، للأسباب السابقة، أن هالة كانت تحظى مرة باندفاعة وأخرى بكمون، لكنها بالبحث والدأب كانت تتقدم في مشروعها الكبير.
ولكي ننصف الجانب الفكري التحرري في اتجاه هالة لترجمة رامبو، يجب علينا أن نشير إلى أن تقديم أعمال رامبو ارتبط بمبادرة عدد من الأدباء الطليعيين وممثلي الحركات الأدبية والسياسية التقدمية إلى تعريف الجمهور العربي بشاعر الحرية البشرية والإبداع العبقري رامبو. ولكن من خلال ترجمات مجتزأة أولها للكاتب السوري الكبير صدقي إسماعيل عام 1952، والشاعر اللبناني شوقي أبو شقرا الذي ترجم صفحات من رامبو لمجلة شعر اللبنانية الرائدة آنذاك، ثم النحات المصري الشهير رمسيس يونان والتونسي محسن بن حميدة اللذين ترجما «فصل في الجحيم»، والشاعر السوري خليل خوري، لكن هذه الترجمات أصبحت مبعثرة ومفقودة.
هدية الماغوط والفيتوري
حصلت على كتاب «رامبو الأعمال الشعرية» الذي يؤكد أن هالة النابلسي لم تحقق مشروع العمر، بل تحدي العمر أيضاً، مستندة إلى اعتبار أنها تقدم أبرز المتحررين الإنسانيين الذي أثر في الأدب الحديث والموسيقا والفن والذي وصفه فيكتور هوغو بأنه «ابن شكسبير، كما قدمت له هالة…». وأجادت هالة في الدخول إلى عمق أسلوب رامبو الناقد والمتهكم الذي يجعل تصوير الكوميديا البشرية نابعة من تراجيديا إنسانية قاسية صورت البشاعة والقبح الذي يتكاثر ليطغى على مصادر الجمال الكوني…: إن فينوس في شعره قبيحة حين ترمز إلى الطبقة البورجوازية الفاسدة. وهذا يتناسب مع نظرة تحررية إلى أعمال رامبو تغلبت على البيئة المتشددة التي قد ترفض ترجمة شاعر استشرف العالم قبيل الحرب العالمية الأولى داعياً إلى رفض الزيف الذي عاشته المؤسسات البشرية آنذاك: ضراوة الاستعمار وظلم الأوطان المكسورة، وظهور الرأسمالية المتوحشة، وظهور المرتزقة وبهذا لا تأتي أفكار رامبو متأخرة ولا غريبة حيث نحن الآن نقاتل بين عالم يأفل وآخر لم تظهر معالمه بعد… أنجزت هالة كتابها بالتزامن تقريباً مع صدور كتاب «آرثور رامبو الآثار الشعرية» العمل المؤسساتي الصادر عن دار الجمل للمترجم والناقد والكاتب الكبير كاظم جهاد الذي اعتبر العمل الأول بالعربية الذي حظي بمقدمة ودراسات وهوامش وشروحات كدليل إلى دخول عالم رامبو وفهم أبعاده في التاريخ البشري، العمل الذي تجاوز قدرات هالة الفردية لكن كتاب هالة استطاع أن يحقق شخصيته الخاصة المبدعة ورأي الشاعر الكبير محمد الفيتوري فجاء أيضاً شعراً يترجم شعراً.
حققت هالة كتابها من خلال اللغتين الفرنسية والإنكليزية، واستخدام لغة عربية غنية المفردات واضحة ودقيقة المعاني، واستطاعت إلقاء الأضواء على قصائد رامبو الخالدة، التي قد تكون مصدر اهتمام للقارئ العربي، مثل أشعار رامبو في كومونة باريس الثورية، وعلى سبيل المثال لا الحصر: قصيدة الحداد التي يسخر فيها عامل من الإمبراطور نابوليون الثالث، و«الجندي النائم» التي وصفت بأنها أعظم قصيدة صورت موت جندي شاب، وكذلك قصيدة «ديموقراطية» التي استشرفت تقدم جيوش المرتزقة الاستعمارية لتدمير الأوطان في العالم، وقالت على لسانهم:
الراية تلائم المشهد القذر
في داخلنا نغذي البغاء الأكثر قحة
ونقتل الثورات المنطقية
في البلاد العطرة الندية
في خدمة أبشع أنواع الاستغلال
نجهل العلم ونحرص على العيش الرغيد
ليذهب العالم إلى الجحيم
هذا هو السير الصحيح
لا يقرر النقاد هل اقتنص رامبو لحظة كثيفة في تاريخ البشرية لشن هجومه الفكري والسياسي والشعري حيث يمضى العالم إلى تبلور فساده وظلمه واستعباده، أم العكس القائل إن ذاك العالم في لحظته الكثيفة تلك قد اجتاح عالم رامبو ليكون ذلك الرائي الذي يشير إلى الحقيقة، لكن عجائبية رامبو أنه كتب الشعر وهو في سن السادسة عشرة حتى الحادية والعشرين. وأنه بعد ذلك أدار ظهره متنقلاً في أوطان فطرية ونائية كالبلدان العربية مؤكداً بهذا رفضه للعالم الذي أشبعه نقداً، ليموت في سن السابعة والثلاثين.
نقرأ كل هذا في ترجمة هالة النابلسي: رامبو الأعمال الشعرية الذي قدمته في سبعة فصول أطلقت عليه اسم مواسم، ولا يتسع مقالنا للخوض في الفصول الفلسفية الشهيرة التي لا تزال تثير جدلاً حتى الآن مثل: فصل في الجحيم، الرائي أو الحالم، كيمياء الكلمة وغيرها.
لكننا نؤكد أن الجانب الفكري السياسي للوجود البشري الذي تتكرر أبعاده في حياة القارئ العربي كان المستند الواقعي لمقاربة رامبو.. لهذا فإن رامبو كما جاء في كتاب هالة يعني الكثير لنا محققاً الهدف الذي تطلع إليه الشاعر الكبير الراحل محمد الماغوط من تقديم رامبو للثقافة العربية، وخاصة أن رامبو حظي بشهرة واسعة كرمز إنساني وحيد في تاريخ البشرية، من دون أن يكون هناك وجود لكامل أعماله الشعرية بين أيدي الطامحين إلى معرفة فكره وشعره وتمرده.
نشرت هالة النابلسي كتابها في ذروة الحرب الإرهابية على سورية عام 2013 عن دار المدى، وجاء كأنه هدية رسم أبعادها الكبيران محمد الماغوط أولاً ثم محمد الفيتوري في التركيز على التقنية للترجمة الشعرية، وجاءت أفكار رامبو في ظروف التطرف والهجوم المظلم الذي نواجهه كثافة ضوئية من بؤرة معرفية تصدت منذ قرن ونصف القرن لسير الأنظمة الاستعمارية والرأسمالية المتوحشة وإرهاب مرتزقتها في الماضي، كما في الحاضر وأدت إلى دمار الإنسان.
وقدمت لنا هالة بالنهاية، قناعة تقول إن الأنوار السورية لا تطفأ وأننا سنجدها أينما ولجنا باباً ثقافياً يكشف وراءه فسحة من الضوء على المعرفة والحرية وسط حصار لا يمكنه الاستمرار.. قد لا يكون هذا إلا بتجديد حركة ثقافية علمانية وتنويرية، لكن هالة نموذج والأبواب السورية كثيرة.
الوطن