لماذا يبدو التشكيليون الشباب بلا هويةٍ مقطوعي الجذور؟
يقول البعض إن التشكيل السوري أغرق في التغريب والابتعاد عن الجذور لذلك فالكثير من الأعمال والتجارب باتت تشبه الفنون الأوروبية أو تقلدها من دون خصوصية محلية وبلا فرادة، مع أن التاريخ الفني السوري يعود إلى ما قبل الميلاد بآلاف السنين!. هل يمكن اعتبار التعلق بالتجريد والهوس بمواكبة المدارس العالمية الغرائبية الحديثة من جملة الأسباب المسؤولة عن هذه الظاهرة؟ أم يفترض أن نعيد الانقطاع إلى عدم التواصل المعرفي مع هذا الإرث البصري؟ الأسئلة كثيرة ومتشعبة ويمكن أن تؤدي إلى مكاشفات غير متوقعة من الناحية الإبداعية والنقدية.. وإذا ما نظرنا إلى التجارب الجديدة الشابة في التشكيل تحديداً فإننا نكتشف تلك الغرائبية الغريبة التي يشتغل عليها فنانو اليوم مع أن معظمهم يمتلك قدرات على صعيد الخط واللون!.
في هذا المحور، يفرّق الفنان نبيل السمان، بين أجيال التشكيل وأجيال النحت، فالرؤية التاريخية حسب السمان، تقول إن جيل الرواد من الفن التشكيلي عمره يمتد إلى مئة عام وقد اشتغل هذا الجيل على المحلي لمقاربة الواقع مع إيجاد فكر حداثوي أو انطباعية سورية مختلفة عن الانطباعية التي كانت موجودة في أوروبا.. يقول السمان:
«لنأخذ الفنان ميشيل كرشة على سبيل المثال، فقد كان يقول إنه في منطقتنا كيمياء لونية لها خصوصيتها وبذلك كان يعمل على محاكاة الواقع، هذه الكيمياء تتعلق بالطبيعة أو التراث الشعبي أو المكان.. لاحقاً أصبحت هناك تيارات متلاحقة منهم من درس في الخارج ليخرجوا من الحالة الواقعية ويلتحقوا بالحداثة».
من جهته، يرفض الفنان اسماعيل نصرة توجيه الاتهام إلى الأسلوب التجريدي وتحميله مسؤولية تكريس التغريب وتقليد الآخر أو التسبب بالقطيعة التي نتحدث عنها، فهذه المدرسة الفنية كما يشير موجودة عملياً في كل الثقافات العالمية وبالتالي هي غير متهمة بانفصالنا عن الواقع.. يقول نصرة:
«في البدء دعني أقول إن التجريد مدرسة أو أسلوب فني عالمي وليس أوروبياً، هذه المدرسة مثل بقية المدارس التعبيرية والواقعية والسريالية وغيرها… ليست الحداثة أو التجريد سبب تغريبنا أو انفصالنا عن الواقع أو ارتباطنا بمحليتنا كفنانين فكما تعرفين كل أنواع الفنون عبارة عن ثقافات متصلة عبر التاريخ ومتأثرة ببعضها ومتفاعلة عبر تمازج هذه الثقافات…وكم من الفنانين مثل بيكاسو وماتيس والمستشرقين تأثروا بمفردات تراثية شرقية وصارت عنصراً أساسياً في أعمالهم».
يؤكد نصرة أن المشكلة تتعلق بنا قبل كل شيء، بمستوانا المعرفي ومفهومنا للخصوصية وضرورة الانطلاق من المحلية إلى العالمية.. يقول: «المشكلة تتعلق فينا وبثقافتنا…فالعالمية التي ينشدونها تبدأ بمواضيع لصيقة بنا وبواقعنا وليس العكس، وهذا المطب الذي نقع فيه دائماً… الغرب صدّر لنا هذه الأساليب وقد ملّ منها وعاد بقوة من حيث بدأ»!.
الفنان ميسر كامل يعود إلى بدايات التشكيل السوري ويصفه بحديث العهد، ثم يربط الكثير من هموم هذا الفن بالحرب وآثارها المريعة على معظم الناس في البلد، يقول كامل:
«الفنان مواطن كغيره وإن كان يستشعر المأساة و يدرك نتائجها الكارثية بأكثر من حواسه الخمس .. البعض قُتل أو شُرد أو أفقر أو هاجر أو سلب أو فقد أحبته وتهاوت الجماليات كلها ماضياً وحاضراً ومستقبلاً أمام عينيه .. فلن يكون غريباً أن نرى أعمالاً فيها ركاكة متعمدة أو أجساداً لوحوش مشوهة أو استسهالاً وربما عبثيةً في إقحام تقنية الفوتومونتاج التي تقدم صوراً متناسخة لوحش السيكلوب».
جيل التشكيليين الجديد لم يبحث عن الهوية!
يعود السمان إلى مراحل تاريخية سابقة كانت تحضر فيها الأسماء التشكيلية الهامة ممن نسميهم الرواد ويشير كيف كانوا يشكلون ضماناً تعليمياً وقدوة في العمل الفني بالنسبة للجيل الجديد.. يقول: «الفن التشكيلي عبارة عن نتاج مرحلة توجد فيها نظرية وكنا صدى على كل المدارس .. فالتجربة تفرز نتائج.. وكان هناك فنانون مبدعون شكلوا خصوصية فنية منفردة، أمثال فاتح المدرس ونصير شورى وغيرهما.. وهم فنانون مبدعون على الصعيد الفردي.. حيث ظهر بعد جيل الرواد فنانون تتلمذوا على يد الفنان التشكيلي فاتح المدرس الذي عدت لوحاته بداية اتجاهات التجديد في الفن التشكيلي السوري، هذا الاتجاه، الذي وصف بالتعبيري حيناً والواقعي التعبيري حيناً آخر، كان يستلهم موضوعاته وأشكاله من العلاقة بين الإنسان والمكان ومن التراث الحضاري على امتداد تاريخه وشواهده في سورية، وقد ظهر بأساليب مختلفة في أعمال عدد من الفنانين».
ما عصف بالتجارب التشكيلية الشابة على نحو خاص، يعيده الفنان نصرة إلى تشجيع غير الخبراء لأولئك الفنانين من دون محاولة وضعهم على الطريق الصحيح… يقول اسماعيل: «من ناحية تقنية، أضع اللوم على من يشجع التغريب بدءاً من كلية الفنون الجميلة إلى أصغر صالة….فقد ترى فناناً مبتدئاً يرسم تجريداً ونحن لا نعرف مستواه أكاديمياً أو واقعياً فترى عملاً مترهلاً دون المستوى وهذا في حد ذاته مصيبة.. بالإضافة إلى عقدة العالمية مع التحفظ على هذه الكلمة ومعناها.. سآخذ الفنان السوري الكبير فاتح المدرس نموذجاً للمغرق بالمحلية والبيئية ونال شهرة أكثر بكثير من الذين عاشوا في أوروبا ففي ثقافتنا وحضارتنا مواد غنية ودسمة لأن نصنع منها فناً جميلاً وراقياً وقوياً..».
رسامون أم فنانون؟
مشكلة الجيل الجديد أنه لا يقرأ، وهو يريد أن يجد هوية خاصة به، وهذا ما يعتقه من الإرث بشكل غير علمي. والمشكلة الأخرى أنه لا يوجد تنظير للتجربة أو أي كتابات عن تلك التجربة.. وبالتالي لم تظهر أصالة كل تجربة أو الحالة النقدية لها.. يضيف الفنان نبيل السمان:
«إلى الآن هناك غياب حقيقي للنص النقدي الذي يحلل العمل ويبرزه ويوجد مناطق القوة فيه .. والمطلوب اليوم أن يكون هناك نص مناسب للتفسير، أو ناقد للعمل، أو الفكر المرافق لما يقدمه من نتاج، وهذا كان موجوداً سابقاً في تاريخ الفن. الآن.. يوجد لدينا رسام وفنان.. الرسام هو من يرسم .. والفنان هو من لديه مشروعه الخاص، ويبحث ليلاقي نفسه من خلال هذا العمل.. حيث أنه يقدم تجربة أصيلة بمعنى الفرادة».
في النقطة ذاتها، يرى ميسر كامل أن الحركة التشكيلية السورية معاصرة حيث يؤرخ لها منذ أواخر الاحتلال العثماني، في حينها بدأت تتبلور معتمدة التقليد والمحاكاة واستنساخ الأعمال الفنية في سياقها النمطي التقليدي وإن كان يحسب لها أنها خرجت عن إطار تحريم التصوير وتجاوزت الإرث البصري الذاتي كالزخرفة الإسلامية وما شابهها.. يقول كامل: «الجذور نمت في ظل الانتداب الفرنسي وأخذت عن المدارس الأوروبية حيث التقليد والتبعية والمهنة الحرفية أكثر من الروح الابتكارية في فترة لاحقة وإثر عودة العديد من الفنانين الدارسين في إيطاليا ظهرت أعمال تصويرية ونحتية تقدم للبيئة السورية بنكهة أوروبية».
رواد النحت ورواد التشكيل
يقارن الفنان نبيل السمان رواد النحت مع رواد التشكيل، ويتحدث عن نهوض شهده النحت السوري في مرحلة ماضية لكن المشكلة عادت لتتركز بالجيل الجديد فهو رازح تحت العولمة.. يقول: «بالنسبة إلى رواد فناني النحت لم يكونوا كفناني التشكيل في تلك الفترة، وكانت هناك تجارب محدودة، وحين بدأت تنهض حركة النحت السوري الحديث، استطاعت أن تثبت حضوراً مميزاً بين أجناس الفنون التشكيلية الأخرى، ومنها التصوير الذي كان ولا يزال الغالب والمسيطر على هذه الفنون جميعاً.. أما الأجيال الجديدة فقد تأثرت بالعولمة والميديا وانفتحت على العالم بشكل كبير، وهذا يعد موضوعاً خطيراً».
يتابع الفنان ميسر مع الأجيال التشكيلية التي تظهر بالنسبة إليه منسجمة مع التطور التاريخي للحركة الفنية.. يقول: «تأثر الجيل الناشىء إلى اليوم بالأعمال التصويرية لالياس الزيات ونذير نبعة ثم ادوار شهدا وأسعد عرابي وفادي يازجي ولم يجد الفن التجريدي رفيع المستوى الذي قدمه عبد الله مراد الكثير من الأتباع و كذلك كان مع رائد التجريد محمود حماد منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن بدأ التجريب ببطء وظل يدور في فلك الهوية التي رسختها تجارب الرواد في خمسينيات وستينيات القرن الماضي وراكمتها تجارب طليعية ظهرت في السبعينيات وما بعدها ولم تحدث مجازفات تشكيلية تهدد بقطيعة كاملة ونهائية تجعل التجريب يحدث داخل الهوية التشكيلية السورية وهكذا فإن الجذور تماهت مع المدارس الغربية وكذلك فإن التجريد لم يكن طارئاً أو ردة فعل إنما ظهر مبكراً كجزء من الحركة التشكيلية السورية المعاصرة و كثير مما جاء من أعمال ضمن التجريب المتتالي لم يخرج عن عباءة ذلك التجريد..
قطيعة بين جيلين
القطيعة تظهر واضحة كما يشرح الفنان نبيل السمان، وهذا أمر يرحب به الجميع إن كان يتم من ضمن الوجهة الإبداعية، لكن المشكلة أن تأتي القطيعة بسبب تقليد الآخر أو كردة فعل على فعل آخر.. يقول السمان: «الجيل الجديد لم يبحث عن هوية له، ولم يوجد أي فكر لتجربته.. اكتفى بالثقافة العالمية وذهب إلى حالة التجريب والبحث، وهذا ما خلق القطيعة بين الجيل القديم والجديد .. إذ إنهم لم يهتموا بالهوية والأيقونة والآباء.. ومن هنا كانت نظرية قتل الآباء صحيحة.. اليوم يوجد نظريات بمعنى الانعتاق أو البحث التجريبي، وبالمقابل مازال هناك من يصر على نكهتنا الخاصة».
الفنان ميسر كامل، يعيد ربط القضايا بالأحداث والحرب التي عصفت بالساحة السورية، وهذه مسألة لابد من أن تنتج عنها أسئلة جديدة وأساليب وقضايا جدلية.. يقول:
«أما عن الحالة التي آلت إليها الحركة التشكيلية السورية منذ أن دخلت البلاد في أزمة طالت كل جوانب الحياة فيها فإن ما أفرزته هو واقع لا مفر منه و ليس الفن التشكيلي بمنأى عنه و ليس تغريباً أو انفصالاً عن الجذور والجذوع».
أسئلة التشكيل السوري تأخذ أبعاداً جدلية إثر كل معرض يقام فيقدم أسماء جديدة للمشهد، إنه السجال الطبيعي بين التجارب والأجيال والرؤى، لكن ما نسميه بالخصوصية لا يعني الانغلاق ولا يتطابق أيضاً مع الآخر لأنه في النهاية يندرج في إطار التقليد.. أسئلة دائمة ومتجددة بالتأكيد!.
تشرين