آخر ما كتبه الموثّق الراحل شمس الدين العجلاني للوطن
آخر ما كتبه الموثّق الراحل شمس الدين العجلاني للوطن
الاثنين 12-02-2018
- نشر 7 سنة
- 1109 قراءة
شمس الدين العجلاني
لدمشق قصص وحكايا قد نبدأ بها ولا ننتهي.. لدمشق المدينة العريقة العتيقة أقدم عاصمة مأهولة على وجه الأرض لم تنقطع عنها الحياة أبداً، لدمشق التي تحدّث عنها وتغزّل بها وعشِقَها آلاف الآلاف من البشر منذ آلاف الآلاف من السنين، لدمشق هذه تاريخ ولد قبل التاريخ.. ولم تزل هذه المدينة كل يوم تبوح لنا بسر جديد قديم عريق.
يقولون إن دمشق منذ الأزل، كانت مدينة منظمة بأبنيتها وأوابدها، وشوارعها المتعامدة، يحيط بها سور لحمايتها يتخلله عدد من الأبواب، ويروي المؤرخون أن لدمشق في قديم الزمان عشرة أبواب وشبكة من الطرقات المرصوفة، وكان أروع شارع في ذلك الزمان بدمشق اسمه الشارع المستقيم.
أبواب دمشق
تقع أبواب دمشق التاريخية على سور دمشق، وكانت تزيد هذه الأبواب وتنقص حسب الضرورات الحربية.. ولم تتجاوز أبواب دمشق العشرة على مرّ العصور، تهدّم بعضها وأنشئ بعضها الآخر في العهود المتلاحقة، وهدم وأغلق أيضاً عدد آخر منها عبر الأيام والسنين، كانت المهمة الأساسية لسور وأبواب دمشق مرتبطة بأمن الناس فكانت وسيلة دفاعية قوية لصدِّ المعتدين من الغرباء والغزاة عن دمشق وأهلها. سور دمشق بُني بأيدي اليونان في بادئ الأمر وليس كما هو معروف ومتداول في كتابات عدد من الباحثين والكُتاب أنه بني في العهد الروماني.
اليوم تشتهر دمشق بأبوابها السبعة، ويقول المؤرخ حسن البدري في كتابه نزهة الإمام في محاسن الشام إن لأبواب دمشق علاقة بالكواكب..! لذا وُضعت صور الكواكب على هذه الأبواب فيقول: وضع رسم زحل على باب كيسان ورسم الشمس على الباب الشرقي والزهرة على باب توما والقمر على باب الجنّيق وعطارد على باب الفراديس وصورة المشتري على باب الجابية أما المريخ فعلى الباب الصغير.. ومن أشهر أبواب دمشق الباب المسمّى حالياً بباب شرقي والمعروف أنه بني في العهد الروماني.
باب شرقي
تُجمع الأغلبية العظمى من الكتابات التي تتناول الحديث عن أبواب دمشق على أن باب شرقي هو واحد من الأبواب السبعة الرومانية، والباقي منها بحالته الأصلية تقريباً.
يقع باب شرقي حسب أغلبية من كتب عن هذا الباب، إلى الجهة الشرقية من سور مدينة دمشق، وينتهي عند الشارع المستقيم (الوارد ذكره في الكتاب المقدس) الواصل بينه وبين باب الجابية، بُني في العهد الروماني أوائل القرن الثالث للميلاد ونسَبه الرومان إلى إله الشمس، وجُدّد في عهد نور الدين زنكي سنة 1163م كما جُدد بناء المئذنة في عهد السلطان العثماني مراد الثالث قبيل سنة 1582م.
يقع باب شرقي في منتصف سور دمشق ويبلغ ارتفاعه 11 متراً وعرضه 6 أمتار ونصف المتر (اسكندر يارد عام 1930م)، ويتألف الباب من ثلاث فتحات أوسطها أوسعها وأعلاها. تتناسب مع تقسيمات الطريق المستقيم. سُدّت الفتحتان الوسطى والجنوبية في العصر الإسلامي من أجل التحصين والحماية، وبقيت فتحة واحدة فيه. لا يُعرف تماماً ارتفاع المداخل لأن مستوى المدينة ارتفع مع الزمن. ويقدر ارتفاع المدخل الصغير الشمالي بـ317 سم وعرضه 288 سم.
من باب شرقي دخل القائد خالد بن الوليد إلى دمشق عندما جاءها الإسلام. ودخل منه قائد الجيش العباسي عبد اللـه بن علي عند قدومه لاحتلال دمشق عام 132هـ.
دخل عبد اللـه بن علي إلى دمشق ونزل عند الباب الشرقي، وفتحت له المدينة أبوابها يوم الأربعاء 10رمضان 132هـ/26 نيسان750م. ويذكر ابن عساكر: «أن أهل دمشق لما حاصرهم عبد اللـه اختلفوا فيما بينهم، ما بين عباسي وأموي، فاقتتلوا فقتل بعضهم بعضاً، حتى إنهم جعلوا في كل مسجد محرابين للقبلتين، وإمامين يخطبان يوم الجمعة على المنبرين، وهذا من عجيب ما وقع، وغريب ما اتفق، وفظيع ما أحدث بسبب الفتنة والهوى والعصبية».
قتل عبد اللـه خلقاً كثيراً من أهل دمشق وأباح المدينة لجنده الذين عاثوا فيها فساداً ونهباً وقتلاً، وهنالك من يروي، أنه قتل في هذه المدة نحواً من خمسين ألفا ثم هدم سورها وأقام بها خمسة عشر يوماً، ثم سار إلى الأردن وفلسطين.
وبهذا الصدد يروي ابن عساكر، على لسان محمد بن سليمان بن عبد اللـه النوفلي: «كنت مع عبد اللـه بن علي أول ما دخل دمشق، دخلها بالسيف، وأباح القتل فيها ثلاث ساعات أرسل امرأة هشام بن عبد الملك وهي: عبدة بنت عبد الله، إلى البرية ماشية حافية حاسرة على وجهها وجسدها وثيابها ثم قتلوها».
حكاية عبد اللـه بن علي وسور دمشق
من الحكايات النادرة التي تروى عن سور دمشق وبابها الشرقي، أنه حين جاء عبد اللـه بن علي دمشق نزل على الباب الشرقي، وأباح المدينة لجنده ومن ثم أمر الأمير العباسي عبد اللـه بن علي بن عبد اللـه بن عباس بإحراق الجثث وهدم سور المدينة، فخربت أجزاء كبيرة منه.
وتذكر أغلبية الدراسات أنه عندما أمر عبد اللـه بن علي بهدم سور دمشق، وأثناء الهدم وقع حجر منقوش عليه كتابات يونانية، فأمر أن يأتيه القوم بمن يترجم ما كتب على الحجر.. وتبين أنه مكتوب عليه باليونانية:
«ويكَ أم الجبابرة، من رماك بسوء قصمه الله..».
ويروي المؤرخ الدمشقي ابن عساكر «أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة اللـه بن عساكر الدمشقي (499هـ- 571 هـ) الإمام والعلامة الحافظ الكبير..» في كتابه «تاريخ مدينة دمشق» حادثة هدم السور والنبوءة اليونانية فيقول: «أَنْبَأَنَا أبو مُحَمد هبة اللـه بن أحمد، حدثنا عَبْد العَزِيز بن أحمد، أَنْبَأَنَا تمام بن مُحَمَّد، حدثني أبو الفتح الحقود مُحَمَّد بن أحمد بن أَبِي عطاء من موالي عُثْمَان بن عفان يعرف بابن صريرة، قَالَ: قرأت فِي بعض كتب الفتن ليحيى بن حمزة ببيت لهيا من الكتب العتيقة بإسناد لا أحفظه، قَالَ: لما هدم عَبد اللـه بن عَلِيّ بن عَبد اللـه بن عَبَّاس بن عَبد المطلب سور دِمَشْق وقع مِنه حجر مكتوب عَلَيْهِ باليونانية، فطلب من يقرؤه، فلم يجد أحدا يقرؤه حَتى دل عَلَى رجل بالجزيرة، فوجه خلفه، فقرأه، فإذا فيه: ويك أم الجبابرة، تعيشين أربعة آلاف سنة رغدا، فالويل لك من خمسة الأعين: عين بن عين بن عين بن عين بن عين فإذا وهى منك الجناح الشرقي، ووهت الطايات من جيرون بعث اللـه عليك من يحلل منك العقد، ويتداعى عليك العرب، فيصابون فِي كُلّ سهل وجبل لا يعبأ اللـه بهم شيئا، وإذا وهى منك الجناح الغربي أديل لك ممن يعرض بك..».
تعديل باب شرقي
ومن باب شرقي دخل دمشق الملك العادل نور الدين الزنكي عام 549هـ/1154م وهزم السلاجقة. ويعتقد أن نور الدين هو من قام بسد الفتحتين الوسطى والجنوبية من الباب لأسباب دفاعية. لكون الصليبيين كانوا يهددون دمشق. ورفع فوقه مئذنة مربعة، وبنى جامعاً صغيراً وراءه، وأقام سويقة (باشورة) أمامه، تهدّمت الباشورة والمسجد في أواخر القرن التاسع عشر أو بدايات العشرين، وفي القرن العشرين تمت إعادة فتح البوابتين الوسطى والجنوبية من الباب بعد ترميمه ترميماً شاملاً.
داخل باب شرقي توجد كتابة مشوهة تؤرخ عام 559هـ وتذكر اسم الباني (نور الدين زنكي). وفي العهد الأيوبي أخذت حجارة القنطرة لتبلط بها أرضية الجامع الأموي.
هو باب الشرقية وليس باب شرقي
في دراسة نادرة ومهمة للأب الباحث والمؤرخ أيوب سميا نشرها عام 1958، ينفي أن يكون الاسم باب شرقي صحيحاً، لأنه حسب رأيه أن كَتبة دمشق المتأخرين من صحفيين ومؤرخين وموظفي الحكومة في السجلات الرسمية، يكتبون الاسم من دون «الـ» التعريف، وهذا الاسم بحالتيه التعريف والتنكير تعنون به الجهة أي الباب الذي إلى جهة الشرق. ويتابع الأب سميا بالقول: (من حيث اللغة إن هذا الاستعمال المنكر هو من تراث الأتراك العثمانيين في بلادنا ومن صيغهم التركية– العربية. فإذا كان الكتبة العرب الحاليون يقصدون بالاسم الجهة فالأصح أن يكتبوه معرفاً «الباب الشرقي». ثانياً من حيث المعنى نرى أن قصد الجهة خطأ واضح دافعه جهل الأصل. لأن هذا القصد لو كان المتأخرون أخذوه عن المتقدمين هكذا لكان يجب على المتقدمين أن يسموا غيره من أبواب المدينة باسم الجهة كالباب الغربي لباب الجابية، والباب الجنوبي والباب الشمالي. ولكن لم يسبق للقدماء هذا القصد في دمشق ولا في غيرها، فإذاً هذا الاسم الحالي– معرفاً أو منكراً– ما هو إلا تسلسل مغلوط عن أصل صحيح وهذا الأصل هو «باب الشرقية» هكذا الترجمة العربية. وأما الأصل اليوناني فهو هكذا: «pyli anatolye»).
فالأب سميا يؤكد خطأ تسمية باب شرقي بهذا الاسم ويرد أصل التسمية إلى باب الشرقية، مشيراً أن أصل الباب يوناني وليس رومانياً (ويقال إن الباب جُدد في عهد الإمبراطور الروماني سبتيموس سيفيروس) والشرقية أو«أناطولي» في اليونانية pyli anatolye هي مدينة من وضع اليونان الجاهليين «الجاهلين أي الوثنيين الذين كانوا يجهلون عبادة اللـه تعالى، وكانوا يعبدون الشمس» على شاطئ القسم الشمالي من البحيرة التي يصبّ فيها فرعا نهر بردى– «بحيرة العتيبة» وسكان مدينة الشرقية اليونان النصارى الذين أسلموا وتعربوا، عربوا اسم مدينتهم من «أناطولي» إلى الشرقية، وأخذ الباب اسمه من اسم هذه المدينة، فهو حسب رأي الأب سميا، باب الشرقية وليس باب شرقي. وقد ورد ذكر اسم مدينة الشرقية «اناطولي» في التاريخ الكنائسي اليوناني لمؤلفه «ذكصا باتريس» القسطنطيني في عهد إمبراطور القسطنطينية «لاون السابع الحكيم» المتوفى سنة 911م.
إذاً باب شرقي هو برأي الأب سميا «باب الشرقية» باب يوناني، فدمشق ازدهرت عمرانياً في العهد اليوناني، حيث شُيّد فيها العديد من الأبنية والأوابد التاريخية والشوارع «وباب الشرقية» هو من الأوابد اليونانية الباقية بدمشق، ويصفه الباحث سميا، بقوله إن اليونان رسموا فوق الباب نقشاً نافراً في الحجر صورة قرص الشمس تنبعث منه أشعة النور، وقد شاهده وذكره المؤرخ الشهير «ابن عساكر»، واستمر وجود هذه الرسوم في العهد الروماني لأنهم كانوا يعبدون ما يعبده اليونان الجاهلون، ولكن بأسماء أخرى، كذلك أبقى العهد البيزنطي عليها ولم يغيّر إلا الشعائر الوثنية بشعائر دينية، واستمر وجودها في العهود الإسلامية بدليل مشاهدة ابن عساكر لها.
هل الرومان من بنوا باب شرقي أم اليونان أم الآراميون.؟ هل هو باب شرقي أم باب الشرقية.. وتبقى لدمشق قصص وحكايا قد نبدأ بها ولا ننتهي.. لدمشق المدينة العريقة العتيقة أقدم عاصمة مأهولة على وجه الأرض لم ينقطع شريان الحياة فيها أبداً، لدمشق التي تحدث عنها وتغزل بها وعشقها آلاف الآلاف من البشر منذ آلاف السنين، لدمشق هذه تاريخ ولد قبل التاريخ.. ولم تزل هذه المدينة كل يوم تبوح لنا بسر جديد قديم عريق من أسرارها
الوطن