هل يمكن لما نقوله أنْ يغيّر مصيرنا؟ أمثلة عن دور البلاغة في النجاة من العقاب
هل يمكن لما نقوله أنْ يغيّر مصيرنا؟ أمثلة عن دور البلاغة في النجاة من العقاب
الأربعاء 31-01-2018
- نشر 7 سنة
- 6025 قراءة
مما لا شك فيه، أن معظم فترات التاريخ الإسلامي، قد اتسمت بتنوع في أشكال الحكم تحت مظلة "الخلافة" و"الإمارة" والولاية، فعرف عن الحكام، سلطتهم الواسعة، ونفوذهم الذي لا يُقهر.
في ظل هذه المكانة التي احتلها السلطان، تفنن العرب في اختبار أشكال البلاغة، والتحايل بطرق الحكمة والذكاء على عقوبات قد تصل حدّ الموت. أشهر ما جاء عن هذه الحالة هي شخصية شهرزاد، التي تحايلت بالسرد والقصص على تعنت شهريار فحولته من سفاح قاتل، إلى ملك عادل. كما يعتقد الباحثون بأن هذا النسق في مغالبة الصعاب بالبلاغة له جذورٌ في الثقافة الهندية،
في هذا المقال، نستعرض عدداً من الأمثلة عن استخدام البلاغة والحيلة للنجاة من العقاب والموت، وكيف أن بعض تلك المحاولات قد تمخضت عن نتائج بعيدة المدى، نقلتها لنا المصادر التاريخية والأدبية والتراثية.
في صفين: عندما أسفر ذكاء الأسير عن واحد من أهم الألقاب
في أواخر عام 35هـ/ 656م، قُتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، واندلعت الحرب الأهلية في دولة الإسلام، ولم يحن عام 37هـ، إلا وكان أهل العراق وأهل الشام يتقاتلون فيما بينهم في موقعة صفين.
في تلك الظروف العصيبة، شات الأقدار أن يُطلق اسم "خال المؤمنين" على معاوية بن أبي سفيان أمير الشام، لتبقى تلك التسمية مشهورة عبر السنوات والقرون، بينما يتم نسيان الظرف الذي ظهرت فيه.
بحسب ما أورده أبو علي مسكويه في كتابه تجارب الأمم وتعاقب الهمم، أنّ جيش الشام قد أسر رجلاً من جيش العراق، يُدعى عمرو بن أوس، ولما هم معاوية بإصدار الأمر بقتله، قال له عمرو "أنت خالي، فلا تقتلني"، فاندهش أمير الشام من مقالته، واستوضحها منه، فقال له عمرو أنه لما كانت أم حبيبة زوجة الرسول، هي أم المؤمنين، ولما كان معاوية أخوها، فقد صار خال لجميع المؤمنين، وبالتالي خال لعمرو.
وقد اُعجب معاوية كثيراً بذلك اللقب، وصار يُنادى به من وقتها، واشتهر به في كتب التاريخ والتراجم والطبقات، دوناً عن إخوة باقي زوجات الرسول.
مدعي النبوة الذي أفلت بذكائه من عقاب الخليفة المأمون
أحد المواقف الطريفة التي لعبت فيها البلاغة دوراً مهماً في انقاذ صاحبها من العقاب، كان ذلك الموقف الذي وقع زمن الخليفة العباسي عبد الله المأمون.
في كتابه العقد الفريد، يذكر ابن عبد ربه الأندلسي المتوفى 328هـ، تفاصيل ذلك الموقف، بقوله إن أحد مدعي النبوة قد اقتيد إلى حضرة الخليفة العباسي المأمون، فلما شاهده الأخير، طلب منه أن يُظهر أي علامة أو معجزة، فقال له الرجل إن علامتي هي أني أعلم ما في نفوس الناس، عندها طلب منه المأمون أن يخبره بما في نفسه، فقال له الرجل "في نفسك إني كاذب"، فقال له المأمون صدقت، ثم أمر به فسُجن.
وبعد عدة أيام، أمر المأمون بإحضار ذلك الرجل إليه، وسأله هل تنبأت بشيء خلال فترة الحبس، فقال له مدعي النبوة "لم أتنبأ بشيء، لأن الملائكة لا تدخل السجن"، عندها ضحك المأمون من سرعة بديهة الرجل، ومن ذكائه، وأمر بإطلاق سراحه.
ابن عمار: الشاعر الذي أنقذه شعره وقتله تسرعه
"في العجلة الندامة"، أحد الأمثلة المعبرة عن تلك المقولة، هي قصة الشاعر أبو بكر بن عمار مع ملك أشبيلية المعتمد على الله بن عباد.
ابن عمار بدأ حياته كشاعر متجول بسيط الحال، والتقى بالمعتمد خلال فترة إمارته على مدينة شلب، ولم يستغرق الأمير الكثير من الوقت حتى أعجب الأمير بذلك الشاعر المتواضع، فقربه من مجلسه، وجعله مستشاره ونديمه، حتى إذا ما آل إليه الحكم عينه في منصب الوزارة، فصار ابن عمار هو المتحكم الفعلي في جميع شؤون الأندلس.
كل تلك السلطة، جعلت ابن عمار يقدم على الاستقلال بحكم مدينة مرسية التي كان والياً عليها، كما أنه في بعض الأحيان انشد الشعر في ذم المعتمد وزوجته اعتماد الرميكية.
ولم يمض وقت طويل، حتى تمخضت تجربة ابن عمار عن الفشل الذريع، فسقط أسيراً في يد المعتمد، وسجنه الأخير عقوبة له على خيانته.
ومن سجنه المظلم، بدأ ابن عمار في ارسال القصائد الاعتذارية إلى نديمه القديم، واحتوت تلك القصائد على بلاغة وشاعرية ندر أن وجدت في أدب الاعتذار والأسف، وكان من أهم تلك القصائد، تلك القصيدة التي جاء في مطلعها:
سجاياك إنْ عافيت أندى وأسمحُ وعذرك إنْ عاقبت أجلي وأوضحُ
وإنْ كان بين الخطتين مزية فأنت إلى الأدنى من الله أجنحُ
ويذكر المستشرق الهولندي رينهارت دوزي في كتابه ملوك الطوائف، أن استغاثات ابن عمار قد نجحت في اثارة تعاطف المعتمد، فقابل ابن عمار في سجنه ولمح له بالعفو عنه، فكتب الشاعر المنكوب من فوره إلى بعض أصدقائه، يخبرهم بقرب خروجه من السجن، وأنه سينتقم ممن تشفى فيه، فلما وصلت تلك الأخبار إلى مسامع المعتمد، عدل عن رأيه، فخسر ابن عمار بسبب حماقته، ما أسكبته إيّاه بلاغته.
الإسكافي الذي أفلت من عقاب الحاكم بأمر الله
البلاغة والذكاء وسرعة البديهة استطاعت في الكثير من الأحيان أن تنقذ أصحابها من بطش الحكام المتطرفين في أحكامهم وأهوائهم، ومن أبرز المواقف على ذلك، ما رواه المؤرخ محمد بن إياس الحنفي المتوفى 929هـ، في كتابه بدائع الزهور في وقائع الدهور، عند حديثه عن شخصية الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله.
بحسب ما ذكره ابن اياس، فإن الحاكم بأمر الله والذي اشتهر بغرابة أطواره، وتطرفه في تعاملاته مع المصريين، قد أصدر مجموعة من الأوامر التي حرم فيها بعض العادات، وكان من بينها منع أكل الملوخية والجرجير والقرع والترمس وأم الخلول، كما أنه أمر الناس بالنوم صباحاً والعمل ليلاً، وتوعد من يخالف تلك الأوامر بالعقوبة المغلظة.
كل تلك القرارات، أثارت دهشة وسخرية المصريين، فامتثل لها بعضهم خوفاً من العقاب، بينما تجاهلها البعض الأخر، ضارباً بها عرض الحائط.
ويذكر ابن إياس، أن الحاكم بأمر الله قد خرج في صباح أحد الأيام، ليتأكد من امتثال الشعب لأوامره، ولكنه فوجأ بإسكافي عجوز قد فتح محله الصغير وانهمك في ممارسة عمله، فما كان من الخليفة الفاطمي إلا أن غضب وعزم على معاقبة الرجل وأن يجعل منه عبرة للجميع، ولكن الرجل توسل إليه أن يشرح له الأمر، فلما سمح له الحاكم بالكلام، قال له الإسكافي:
"يا أمير المؤمنين، كنا قبل ذلك نعمل صباحاً، فإذا أردنا أن نواصل عملنا سهرنا بالليل، ولما منعت أنت العمل صباحاً، أصبحنا نعمل ليلاً، وأنا عندي الكثير من الأعمال، ولذلك سهرت للصباح لأتمكن من إنهائها".
وتقول الرواية التي تسخر ضمناً من المبالغة في استغلال السلطية، أنّ الحاكم عندما سمع تبرير الإسكافي، أعجب بمنطقه، وتركه يعمل في الصباح دون عقاب، وصار الكثير من أصحاب الحرف يقلدونه، ويحتذون به.
ابن تومرت: عندما فتحت الحكمة أبواب السلطة والحكم
في بعض الأحيان قد تصل البلاغة والحكمة بصاحبها، لما هو أكثر من النجاة من العقاب، فقد تصل به لتغيير شكل الدولة وقلب مقاليد السلطة رأساً على عقب.
المغربي محمد بن تومرت، الذي عاش في القرن السادس الهجري، يعتبر أحد أهم الأمثلة على ذلك، فبعد أن أتم دراسته في المشرق ورجع لوطنه في السوس الأقصى، بدأ طريقه بالدعوة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعندما دخل مراكش عاصمة الدولة المرابطية حينذاك، حرض على كسر آلات الطرب وأواني الخمر المنتشرة في الحانات.
وبحسب ما يذكر ابن أبي زرع في كتابه روض القرطاس، فإن الأمير علي بن يوسف لم يجد حلاً سوى أن يعقد مناظرة بين ابن تومرت وعلماء وشيوخ الدولة المرابطية، فبعث يستقدمهم وقال لهم "إنما بعثت فيكم لتختبروا أمره فإن كان عالماً اتبعناه وإن كان جاهلاً أدبناه".
ويجتمع الكثير من المؤرخين على ذكر أحداث تلك المناظرة في كتبهم، فعلى سبيل المثال يتفق ابن خلكان في كتابه وفيات الأعيان، مع ابن أبي زرع في كتابه روض القرطاس، على أن ابن تومرت قد سار بالمناظرة ناحية العقائد وعلم التوحيد، وهي العلوم التي لم يكن فقهاء المرابطين يلمون بها، وكيف أنه سألهم عن طرق العلم وهل هي منحصرة أم لا؟ فعجزوا عن الجواب واضطربوا، بينما بدأ هو في توضيح المسألة لهم بتمكن يُحسد عليه، وهو الأمر الذي أعجب أمير المرابطين، فاتخذ قراراً بالإفراج عن ابن تومرت، غير منتبه إلى أن ذلك الثائر السوسي سينقلب عليه فيما بعد، وسيؤسس لحركة ثورية تطيح بالدولة المرابطية كلها.
المصحفي والمنصور: عندما لا تنفع البلاغة صاحبها
إذا كانت جميع النماذج السابقة، لأشخاص نجوا من العقاب لبلاغتهم وفطنتهم وذكائهم، فإن التاريخ الإسلامي يكتظ كذلك بالعديد من الأمثلة التي لم تنفع فيها بلاغة البلغاء ولا فطنة الأذكياء في رفع الضرر عنهم.
واحد من أوضح الأمثلة على ذلك، هو ما وقع ما بين الوزير المنكوب جعفر بن عثمان المصحفي، والحاجب القوي المنصور بن أبي عامر.
بحسب ما يذكر ابن عذاري المراكشي، في كتابه البيان المغرب، فإن المنصور، الذي استطاع أن يسيطر على الحكم في الأندلس بعد وفاة الخليفة الأموي الحكم المستنصر في 366هـ/ 976م، قام بعزل الوزير المصحفي، وزج به في غياهب السجون، كما قتل وشرد عدداً من أبنائه وأقربائه.
ومن محبسه المظلم الكئيب القابع في أسفل قصور مدينة الزهراء العامرة، بدأ الوزير المنكوب في إطلاق صيحات الاستغاثة والمناشدة للمنصور، واستخدم في سبيل ذلك، بلاغته وحسن نظمه اللذان لطالما عُرف بهما من قبل.
ويذكر محمد عبد الله عنان، في كتابه دولة الإسلام في الأندلس، الكثير من الأشعار البليغة والموجعة، التي أرسل بها الشاعر المسجون لسجانه ليترفق به ويعفو عنه، ومنها قوله:
عفا الله عنك ألا رحمة تجود بعفوك إن أبعدا
لئن جلّ ذنب ولم أعتمده فأنت أجلّ وأعلى يدا
وقوله كذلك:
هبنـي أسأت فأين العفـو والكـرم إذ قادني نحوك الإذعان والندم
يا خير من مدت الأيدي إليـه أمـا ترثى لشـيخ نعـاه عندك القلم
ورغم كل تلك المناشدات، فإن المنصور لم يعف عن المصحفي، ويذكر المؤرخ الأندلسي ابن الأبار في كتابه الحلة السيراء، أن المصحفي قد ظل في سجنه إلى آخر عمره.
رصيف 22