بداية القابضة

رئيس التحرير : عبد الفتاح العوض

رئيس مجلس الإدارة : د. صباح هاشم

من نحن اتصل بنا
أجنحة الشام

الشعراء بين التعلّق بالماضي والقطيعة معه

الأحد 01-01-2017 - نشر 7 سنة - 6130 قراءة

يتنكّر الحداثوي العربي لأبوّته الثقافيّة، عكس الآخر الغربي.. كأنه هو البداية والنّهاية، منه انبثق النّبع وإليه يعود… لكن مهلاً، ألا تستند هذه النظرة الفكريّة بمرجعيّتها إلى الذّهنيّة المؤسطرة للحدث التّاريخي التي صبغت طريقة التفكير العربي برمّته؟. تلك النظرة التي تتجاهل الواقعيّ وشروطه الموضوعيّة والذّاتيّة،  وتعليه ميتافيزيقاً.. بمعنى، أليس مثقفنا ابناً شرعيّاً لثقافة «الأنا» الفاقعة هذه، وضحيّتها أيضاً؟.

فالرّموز التّاريخية، مقدّسة، تبشّر برسالتها عبرَ قدرات خارقة، لكأنّ أبطالها لم يعيشوا في بيئة تاريخيّة اجتماعيّة اقتصاديّة سياسيّة ثقافيّة، زمنيّة!. ثمّ ترسّختْ هذه النظرة بفعل الاستلاب الذّهني والعطالة الفكريّة المتوارثة واستقالة العقل الجدلي، فما درجت عليه الذّائقة الشعريّة الإسلامية مثلاً، تمثّل بتعريف تقعيدي حاسم بأنّ الشعر: هو كلام مقفّى، وموزون، وله معنى،  وكلّ ما هو خارج هذا السياق لا يُعترف به.

وظلّت هذه الطريقة مسيطرة مئات الأعوام ولم تنفلت من عقالها إلا متأخّرة. ثمّ أتتنا الحداثة الأدبيّة/شعراً وروايةً وقصّة قصيرة، فيما بعد على جسر المثاقفة مع الآخر عبر التّرجمات المختلفة والتّداخل الثقافي، وغيره من الأسباب، لتنكسر معها على المستوى الشعري، شكلاً ومضموناً، حالة الإيقاع والوزن الواحد الاستبداديّة لمصلحة ديمقراطية تعدّد القوافي والإيقاعات، ولتزدهر مضامين جديدة أعمق وأوسع، فتحت للمخيّلة نوافذ لم تكن معروفة سابقاً، وهذا ما ميّز قصيدة التّفعيلة. وشكّلَ تحفيزاً للشعراء الجدد بضرورة تجديد نمط وذهنيّة وذائقة الاستماع لديهم والتّدرّب على تقبّل الاختلاف والجديد الوافد.

ومن ثم ابتدأت تتوالد تنويعات أخرى على الإيقاع ليغدو داخليّاً مهموساً من خلال النّبض الدّاخلي المبثوث ضمن حنايا النّصّ، وإفساح المجال للصّورة الشعرية التّخييليّة لرسم معالم وظلال قادرة على تحفيز المتلقّي للتفاعل المثمر. تلك الحالة التي لم يعد الشعر الإيقاعي «العمودي» قادراً على إنتاجها كثيراً  لتحقّقها «قصيدة النثر» وما سمّي فيما بعد بـ«ومضة الهايكو» بنماذجهما العالية الكثيفة، المتقشّفة الكلمات. والمؤسف حقّاً في التّجارب الشعرية العربيّة الحديثة، هو زعم البعض بأنّهم يشكّلون طفرة في أدبهم وشعرهم، وبلا مقدّمات. ولعلّ جولة قصيرة في نتاجاتهم تُرينا عكسَ ذلك، وكم تتكئ نظرتهم على الموروث الأسطوريّ والمأثور التّاريخي والفولكلوري من حيث يدرون أو لا يدرون!. وهو الأمر الطّبيعي لكلّ ثقافة حيّة. فالكائن سليل تطوّره البيولوجي كما التّاريخي الثّقافي بكلّ مكوّناته. والماضي الوحشي والمؤنسن محفوران في «شيفراته الوراثيّة»، وإلاّ لماذا نقف بصمتٍ مهيب، أمام ذاك القديم الباهي بآثاره التّاريخيّة الموغلة في القدم «الأهرامات مثلاً» غارقين في تأمّلٍ لا ينتهي بمزاياها التي تأخذنا إلى غياهب التاريخ والمثيولوجيا؟!. بينما منظر «برج إيفل» الحديث، رغم الإعجاب به، قد لا يحرّك سوى الدّهشة المؤقتة ربّما؟!. كذلك نقف أمام جماليّة «الأنتيكا» أكثر من الإكسسوارات الحديثة، وأمام الوديان والكهوف والمغاور القديمة،  مستلبين تجاهها، أكثر من المنشآت المعاصرة مهما عظمت!.  لكنّ هذه النّظرة القائمة على التّعلّق بثنائيّة القديم والجديد بنسبيّتها الأكيدة، لا تخوّلنا وضع قانون ناظم لها، فهي تتفاوت بين كائن وآخر، ومجتمع وآخر. وهي رهن الظرف والضّرورة، حيث ترى مجتمعات تمرّ بمراحل معينة تميل فيها للدفاع عن نفسها وهويّتها بمحاولة التّشبّث بماضيها وتجميله، وقد تمرّ بمراحل تتوازن فيها الأمور، فينشط التّجديد إلى جانب التمسّك بالقديم المتوالد من رحمه، وهذا ما انعكسَ بدوره في الوعي الفلسفي واضحاً، عبر ثنائيّة الأضدّاد القائمة على الثّابت والمتغيّر. ثمّ، لماذا يتعلّق الأبناء بآبائهم؟ هل يكفي التّفسير «الفرويديّ» القائم على عقدتي «أوديب» و«ألكترا» لتوضيح ذلك، أليست عودة  «أوديب» إلى موطنه استجابة للماضي؟ وكذلك انتقام «ألكترا» ألا يعكس تمسّكها بالجذور التي ترفض التخلّي عنها هي أيضاً؟. وإذا كان الحرمان والكبت والرقابة الاجتماعية هي ما يمنع نموّ الانفعال الداخلي لدى الكائن من الظهور؛ فلماذا توجد الظاهرة نفسها  لدى الحيوان؟ فنرى المهر يتعلّق بأمّه الفرس من دون وجود الصرامة الاجتماعية في عالمه. هذا ما يجعلنا نرى أنّ التكوين البيولوجي المتفاوت بين فرد وآخر، لديه الأجوبة عن الكثير من أسئلة الحنين، إذا استثنينا التطرّف في الحالتين: كأن يكون إمّا تعلّقاً شديداً، وإما نفوراً وبعداً. هذا التّنكّر لأبوّة الماضي لا نراه لدى الغربي. فها هو رائد الشعر الإنكليزي الحديث «ت. س.  إليوت» بقصيدته الشّهيرة الطويلة «الأرض اليباب»، التي اتُّفقَ على أنّها فاتحة الحداثة الشعرية، لا يخفي تأثّره بالتراث الأدبي العالمي قديمه وحديثه، تلك القصيدة القائمة على مضمون يقول: إنّنا حين لا نحترم قوانين إيقاع الأرض ونطبّق قوانيننا الجائرة عليها فثمة «قحط، وبوار» سنحصده بلا شكّ، لأنّنا نلغي بذلك شروط دورتها الزّراعية، فـ «إليوت» يصوّر «أوروبا» التي تكاد تكون قد وصلت إلى مرحلة العقم بسبب سلوك الإنسان الغريب وتشوّه علاقته بالآخرين وكثرة الخداع والغشّ وطغيان العلاقات الاستهلاكية والميكانيكيّة، القائمة على المنفعة التي حكمت سلوك الأفراد وزيّفت القيم فيما بينهم.

تلك القصيدة الطويلة التي عُدَّت عنوان «الحداثة» تمتلئ بالكثير من الرّموز القديمة والتّراثيّة الكلاسيكيّة بأقسامها الخمسة: /دفن الموتى، لعبة الشطرنج، العظة النّاريّة، الموت بالماء، ما قاله الرعد/. وقد أكّد الشاعر فيها من دون حرجٍ تأثّره بكثير من المرجعيّات،  ككتاب «جيسي وستون» /من الشّعيرة إلى الرّومانس/ حول أسطورة الكأس المقدسة الذي لم يلهمه العنوان فقط بل والكثير من الرمزيّة التي تشبّعت بها قصيدته. و يشير أيضاً إلى كتاب «أنثروبولوجي» هو «الغصن الذهبي» وأشعار الكتاب المقدس «حزقيال، الجامعة» وأفكار «بوذا» والكثير من الشعراء المعاصرين كـ «بودلير، دانتي، جون وبستر.. إلخ. كما يقول الباحث «حنّا عبود» هكذا نجد الشاعر الغربي الكبير يعترف بتزاوج نصّه بالكثير من النتاجات المعاصرة والتاريخيّة من دون تنكّر لمرجعيّة نصوصه. بينما لا نجد لدى شعرائنا ورموزنا الأدبيّة سوى النكران والتعتيم على مرجعياتهم الثقافية الحديثة والقديمة تحت ادّعاءات الرّيادة والإبداع الصافي. وسنوضّح فكرتنا أكثر باتكائنا بمثالين على الموروث الأسطوري الذي قدّم لنا الكثير من المنافذ لفهم طبيعة الكائن المعقدة التي تجلّت في سلوكه البيولوجي الغامض الذي هذبّه الاكتساب بالكثير من السّلوكيّات الجديدة،  لكنّها في الوقت نفسه لم تستطع إلغاء حنينه الغامض لنداءات عميقة تصله بالأسلاف عبر «الجينات» وتتحكّم بالكثير من تصرفاته. لقد اشتُرطَ على عازف القيثارة «أورفيوس» بألاّ «يلتفت» إلى الوراء وهو يستحضر زوجته من عالم الموتى، ولكنّه نسي في غمرة انسياقه وراء مساعدتها بالصعود والتفت. حينها، تحوّلت إلى «بخار»، وكذلك زوجة «لوط» التي تحوّلت بدورها إلى عمود من «الملح» وهي تلتفت إلى الوراء، رغم التحذير. حيث الحمم تلتهم «سدوم وعمورة» التي عاث أهلها فساداً وضلالاً، حسب النصّ التوراتي، وبالتفاتتها صارت ملحاً، وصار البحر الميت مالحاً لا يصلح لوجود الكائنات المائية.

والسؤال هنا هو: لماذا هذا التّحذير القاتل من الالتفات للوراء الذي سيحوّل الكائن إلى نثرات وأبخرة وملح؟!. أليس حرصاً على بقائه رهين الأسطرة والغيبيّة التي تمنع العقل من التّفتّح وطرح الأسئلة المعرفيّة والوجوديّة الكبرى؟!. في الوقت الذي لا يجد فيه الكائن مفرّاً من الالتفات إلى الماضي والوراء وهو يحاول تلمّس خطاه في الصعود والارتقاء، أتراه سيبقى رهين هذه المعضلة من الوقوف في درجة الصفر؟. بأنهّ لا يستطيع الانفكاك عن الماضي حتى لو أراد ذلك إلا بشروط بيولوجيته التّكوينية، وذهنيّته الغيبيّة التي وضعته بمأزق وجودي يشبه مأزق «الفراشة والمصباح» التي لا تستطيع انفكاكاً عن الضوء، فتظلّ تدنو منه حتى تحترق!.

فالماضي ضرورة لنا ولكنّه محرقتنا أيضاً، إذا لم نفعّل أدوات العقل والمنطق في قراءته.. يقول الشاعر «محمد وليد المصري» في قصيدته «تناسخ»: «علّقوا نعوتي..فتناسختُ في سنبلةٍ.. فجأة.. غادروني وغابوا.. إلى أين؟!.. لا تحرقوا دفتر العائلة»!.

تشرين


أخبار ذات صلة

تأثير التعليم على الفيزيولوجيا

تأثير التعليم على الفيزيولوجيا

إشراف.. الأستاذ الدكتور رشاد محمد ثابت مراد

المايسترو ميساك باغبودريان:

المايسترو ميساك باغبودريان:

من المحزن عدم وجود أي برنامج يتحدث عن الموسيقا في قنواتنا التلفزيونية