مدمنو الحبر والموت عطشاً
أولئك الذين فقدوا عقولهم في سبيل إيجادها، وأفرغوا أموالهم لملء رفوفهم، وأجاعوا أبناءهم لتغذية فكرهم، وأهملوا تطوير أعمالهم حتى يطوروا ثقافتهم.
تجدهم على الأرصفة، يفتشون في الكتب الصفراء رخيصة الثمن عن كتاب هارب، أو ديوان قديم تهاداه متحابان ثم رماه الورثة لجهلهم بقيمته، أو حتى عن مجلة لا تخطر في بالك.
يعتاد الناس الذهاب إلى الحفلات والمطاعم، ومدمنو الحبر يجوبون معارض الكتب، ويدخلونها بجيوب مليئة، ويغادرون بأكياس سوداء كبيرة، ينوء بحملها العصبة أولو القوة، المدمنون يفتشون في الشوارع القديمة، عن مكتبة منسية في ظل ياسمينة، أو عن مدمن طوته يد الموت وزهد أبناؤه في تراثه الذي خلفه، فعرضوه للبيع بثمن بخس دولارات معدودة وكانوا فيه من الزاهدين.
وبينما يهدي الناس لبعضهم جرار العطر، أو التحف المقلدة، لا يجد مدمنو الحبر إلا أن يتهادوا الكراسات، ويعاقروا المعلومات والصفحات.
يبدو طبيعياً أن يتابع عشاق الكرة دوريات دول بعيدة، أو مباريات ماضية قديمة، لكن ما الذي يدفع مدمني القراءة، إلى قراءة أدب المكسيك أو مذكرات الثورة البلشفية، أو حتى مراجعة أدبيات التنظيمات الجهادية، إنهم يعرفون عن (البؤساء) أكثر مما يعرفون عن جيرانهم الفضلاء ويعرفون عن (ماجدولين) أكثر مما يعرفون عن أهلهم المقربين.
هل هو الفضول أم الحاجة إلى الثقافة أم الإدمان؟
لا أجد مفسراً لذلك إلا الإدمان، فالفضولي يحشر منخاره في كل زاوية، ويتتبع كل أمر صغر أم كبر، أما مدمنو الحبر فحانتهم صالونات الأدب، ومجالس العلم وأنيسهم الكتب لا غيرها.
وأما الحاجة للثقافة، فهم للخبز والدواء والكساء أحوج، ومع ذلك تجدهم يضربون في فجاج الدفاتر، ويمخرون في عباب المحابر، ويطلبون المرور على السطور، ولا تهمهم غيرها من الأمور.
إنه الإدمان، والإدمان في اللغة هو لزوم الشيء، ودَمِنَ على الشيء: لزمه، وأدمن الشراب وغيره: أدامه ولم يقلع عنه، ويقال أدمن الأمر، واظب عليه. (كما في المعجم الوسيط)
وفي اصطلاح أطباء النفس، الإدمان: رغبة عند المدمن، في الحفاظ على الأحاسيس والمشاعر، واللذة الناجمة عن التعاطي لضمان الاستقرار النفسي.
وفي اصطلاح أطباء البدن، الإدمان: هو حالة يعتادها الجسم على مادة ما؛ ليؤدي وظائفه الفسيولوجية، وفي أثناء غياب تلك المادة تختل تلك الوظائف.
ومدمنو الحبر لا يخرجون عن الحقيقة اللغوية ولا العرفية في كل أحوالهم، فلو أبعدتهم عن الكتب، هزلت أجسادهم، واضطربت عواطفهم، وبدا ما كانوا يكتمون من الشغف.
إن تحصيل الثقافة لديهم شيء هامشي، فهم وإن علموا شيئاً عن كل شيء، لكنهم قد لا يجيدون الكلام عن أي شيء، المهم عندهم أن يشربوا من الحبر، فالقراءة عندهم غاية في حد ذاتها، وإن بروز كتاب من بينهم هو أيضاً تحصيل حاصل، فلا بد أن يخرج بحار من سكان الشاطئ، أو عالم قيافة من أبناء الصحراء.
مدمنو الحبر كانوا في زمان مضى ملح البلد، وحكام الأدب والفئة المستهدفة من المجلات والدوريات، وهم من يباركون ظهور الشعراء وبروز الأدباء وكذلك يخرج كاتب من بين مدمني الحبر، وبتصويتهم غير الرسمي تتحدد معالم الثقافة في بلدهم، وهم وحدهم من يضع الأعراف الثقافية والتقاليد الفكرية، ولكن جاءهم زمان الفيسبوك وتويتر والواتساب، زمان غاب عنه كل ما يحبه مدمنو الحبر، فكتاب الفيس ليس له دفتان ولا حتى دفة واحدة، وينشر به كل من هب ودب، وافترى وسب، وتويتر لا يعترف بذوق الكاتب بقدر ما يعترف بحجم المتابعين والمرتوتين.
إن هذا الزمان يدعو علانية إلى تجفيف منابعهم وإهمالهم، وتصنيفهم كفئة ضالة عن ركب الحضارة.
هذا زمان استبدل صفحات الفيس بالصفحات الصفراء، التي كتبها مدمن حبر قديم ببعض دمه ودموعه وسهر عليها أياماً.
هذا زمان استبدال التغريدات الإلكترونية بتغريد العصافير، واستبدال ابتذال الإنستغرام بقصص الحب والغرام، ورقة الوجدان والهيام.
هذا الزمان باختصار حرم فيه الحبر، والمدمنون ما لهم على ذلك صبر، ولا لهم فيه وزر، صحيح أن قلة منهم نزحت من العالم الحقيقي إلى العالم الافتراضي، إلا أن المتشبثين منهم بأرض الحبر بالنواجذ، ما زالوا ثابتين في مكانهم يدعون الناس للعودة لكن هيهات هيهات.
مدمنو الحبر في هذا الزمن صاروا قلة، وهم على طريقهم نحو الانقراض والإعدام بتغريدة رحيمة، أو على الأقل تركهم ليموتوا عطشاً في بحر التطور الإلكتروني، وسيأتي يوم يتفرج فيه أولادنا على الكتاب في المتحف، كما أنهم اليوم يتفرجون على المحابر فقط عند مدمنيها الأوفياء.
هافنغتون بوست