المسرح السوري صوّر المثقف ابن الطبقة البرجوازية
إنّ الفن المسرحي فن متكامل، تجتمع فيه فعاليات كثيرة لتؤمّن له النجاح، فالمخرج المتميز، والممثل القادر، والديكور المعبّر والإضاءة، والملابس والموسيقا، وغير هذا مما يتطلبه الفن المسرحي. ولكن النص، يبقى في طليعة هذه الفعاليات جميعا.. فهو المنطلق الحقيقي والعصب الرئيسي الذي يحرّك أغلبية الأشياء في هذه العملية المرّكبة الصعبة. ولا يمكن أن تقوم نهضة مسرحية حقيقية إلا على أكتاف كتّاب مسرحيين أولا، وكتابة مسرحية واعية.. هذا ما جاء ضمن مقدمة كتاب «المسرح السياسي في سورية» للدكتور غسان غنيم، والذي صدر عن وزارة الثقافة/ الهيئة العامة للكتاب، بواقع 421 ورقة.
تهرّب المسرح من السياسة
كان المسرح قبل عام 1967 يتهرّب من القضايا السياسية- إلا في الجانب القومي- فغرق في الاهتمام بمعالجة القضايا الاجتماعية والتاريخية، وشاعت المسرحية الاجتماعية، والمسرحية التاريخية التي تعالج شخصيات من التاريخ العربي، أو مواقف معيّنة، لأخذ العبرة والعظة، ولإظهار الجوانب المشرّفة في تاريخنا. ولكنه بعد هزيمة حزيران، وجد المسرح أن لا خيار أمامه ولابدّ له من الخوض في بحر السياسة حتى أذنيه، ويقول د. غنيم في مقدمة الكتاب «الأجواء حوله تموج بالسياسة التي أصبحت خبز الجماهير اليومي. فاستجاب المسرح بطواعية تامة، وأقبل على المضمونات السياسية بنهم، فعالج أخطرها، ليواجه المجتمع، وليواجه الهزيمة. عرّى المجتمع، والحكومات، وألقى المسؤوليات على أصحابها وعلّم.. وحرّض.. فتثبّت حضوره، ما ألجأ رجال المسرح العرب المجتمعين في الندوة الختامية لمهرجان دمشق الرابع 1972 إلى إدخال مصطلح «المسرح السياسي» لمناقشته»… ويتابع «ولكن المسرح السياسي شاع، وثبت في الوطن العربي كلّه، فعرفه الباحثون مصطلحاً بدأ يشيع بينهم، وعلى ألسنتهم في الندوات والمهرجانات وفي كتاباتهم، في الكتب والدوريات المختصة. كما ظهرت بعض الدراسات التي خُصصت له».
للمسرح السياسي.. أبواب
تضمن كتاب «المسرح السياسي في سورية» ثلاثة أبواب تضمت عدة فصول، فكان الباب الأول «المسرح السياسي مقدمات نظرية» يتحدث بفصوله الثلاثة عن القضايا النظرية التي تتعلق بهذا المصطلح، مثل نشأة المسرح السياسي وتجلياته المختلفة في العالم، حتى وصل إلى منطقتنا العربية. أما الباب الثاني فقد عالج فيه المؤلف هموم المسرح السياسي السوري المعاصر، فقسّمه إلى ثلاثة فصول تتحدث جميعها عن الهموم التي عالجها المسرح السياسي فاكتسب بذلك مشروعية تسميته، حيث تناول الفصل الأول «هموم المواطن» كالهم الديمقراطي وقضية الحرية وقضية المثقف وموقف المثقفين من الأحداث السياسية التي مرّت بالوطن والذي حسب المؤلف بدا موقفاً سلبياً يحمل الكثير من بذور الشك والريبة في أخلاق المثقفين وطبائعهم كما قال د. غنيم «وجدت في هذا مفارقة تتجسد في أن هؤلاء المسرحيين، ما هم إلا مثقفون ولكنهم، حين تحدّثوا عن المثقفين، وقفوا منهم موقفاً سلبياً. وقد أعدت ذلك إلى أن المسرح السوري، قد صّور نموذج المثقف ابن الطبقة البرجوازية الصغيرة الصاعدة والذي يحمل أخلاق طبقته، ولم يصوّر النموذج الثوري الذي يحمل هموم مجتمعه، ويحاول أن يطرح آفاق الحل أمام الجماهير التي تحتاج إلى من ينير لها الدرب دائما».
أما الفصل الثاني فدرس «هموم الوطن» وهي كثيرة، مثل الهم القومي المتمثل بالوحدة العربية همّاً أساسياً، وبالقضية الفلسطينية همّاً آخر، واحتل حيزاً كبيراً في خارطة المسرح السياسي السوري المعاصر، يقول د. غنيم «تناولت الحرب، وعرضت لحرب حزيران، ثم لحرب تشرين، ثم لموقف المسرح السوري من الحرب بشكل عام، ثم درست «الثورة» كموضوع رئيسي من موضوعات المسرح السياسي، في المسرح السوري المعاصر، الذي فرّق في معالجة الثورة بين ثورة مثالية وأخرى منظمة، وأخرى مجهضة».
أما الفصل الثالث فقد خصصه المؤلف للتحدث عن هموم السلطة عارضاً للأساليب التي ذكرها المسرح السوري، التي تثّبت السلطة أركانها من خلالها، ولأساليبها في القضاء على المعارضة من قمع وإصلاح أو إجراءات أخرى تمتص من خلالها نقمة الناس، مبيناً بأن المسرح السوري قد أطنب في الحديث عن الهموم السلبية للسلطة وأغفل أو تغافل عن ذكر الهموم الإيجابية لها، فلم يكن بذلك يتوخى الدقة الموضوعية.
أما الباب الثالث فقد خصه المؤلف للحديث عن تقنيات المسرح السياسي التي تميّز بها، من خلال كثرة استعماله إياها وذلك من خلال ثلاثة فصول، مبتعداً عن التقنيات الفنية التي تقوم عليها المسرحيات بالعموم من لغة أو حوار أو حبكة… إلخ لأنها تقنيات رئيسية لا تقوم المسرحية من دونها.
تحدّث الفصل الأول من هذا الباب عن تقنية «الإبعاد الزماني والمكاني» وعن استعمال الرموز، وهذه التقنية شائعة في المسرح السياسي السوري المعاصر كما أنها ليست مقصورة عليه، وقد يسّرت الكثير من الحرية والجرأة للمسرحيين السوريين في تناول موضوعات وقضايا مهمة جدا، ومعالجتها بكثير من الحرية.
في حين تناول الفصل الثاني تقنية «التغريب» التي اشتط المسرح السياسي في اللجوء إليها تأثراً «ببريشت» وبمسرحه أولا ولقدرة هذه التقنية ثانياً على إغناء المضمون السياسي، وخدمة هدف المسرح السياسي في إيقاظ المتلقي وعدم السماح له بالغرق في الوهم.
أما الفصل الثالث فقد جاء بالحديث عن التجريب الذي شاع في المسرح السوري على الرغم من التأصيل، لأن التأصيل الذي يبحث عنه التجريبيون لن يتسنّى للمسرح العربي، ما لم تتأصل شخصية الإنسان العربي التي ما تزال ضائعة تبحث عن نفسها بين التراث والغيبات، والحضارة المعاصرة والفلسفات المختلفة، والتقنية الحديثة، ما لم يصبح المسرح ركناً أساسياً في حياة الإنسان العربي وفي تكوينه الشخصي.
في الخاتمة
أنهى الدكتور غنيم بحثه بالخاتمة التي عرض فيها أهم النتائج التي توصّلت إليها الدراسة، والتي اعتمد فيها على المنهج الاجتماعي بدلالاته العامة، محاولاً تبيان أهمية العلاقة التي تربط الأدب بالمجتمع، كما تناولت الخاتمة الجزئيات بشكل إذا جمع القارئ بين هذه الجزئيات تشكلّت لديه صورة متكاملة عن فكر كل مسرحي سوري وعن أدبه وفنه، وتشكلّت لديه صورة متكاملة عن المسرح السوري المعاصر.
الوطن