جماهير أنزور السينمائية شراكة مع المشاهد
حقق المخرج نجدة إسماعيل أنزور جماهيرية لافتة في عالم الدراما التلفزيونية، ينقلها الآن، بالتعاون مع المؤسسة العامة للسينما، إلى عالم السينما.
في فيلم «رد القضاء».. بعد «فانية وتتبدد».. وحيث شكلت أفلام السجون خطاً درامياً في السينما العالمية قبل العربية. استطاع تسليط الأضواء على قضايا المجتمع وخفايا السياسة، وهذا لدى أنزور أسلوب سينمائي جماهيري المضمون يضيف بعداً آخر إلى قضية الحرب الإرهابية على سورية، متعمقاً في نزعات المجتمع السوري، أثناء الحرب، ومفاهيم الوطن والمواطنة.
جماهيرية الآن
الجماهيرية لا تعني بالضرورة الجودة، لكنها قد تكون نتاجها، كما في حالة المخرج الكبير أنزور الذي دخل ساحة عمله التلفزيوني مجدداً في الشكل، مبادراً في المضمون حيث نسب إليه أكثر من اتجاه جديد في عالم الدراما، لكن الجماهيرية كانت القاسم المشترك لأعماله ذات الأنواع المتعددة، وبالتحديد منذ مسلسل «نهاية رجل شجاع» الذي شكل علامة فارقة في الدراما السورية، وبقيت كذلك بعد اتجاه أنزور إلى أعمال تلفزيونية وسينمائية تدين التطرف والإرهاب قبل الحرب على سورية وأثناءها.. الآن.. جماهيرية أعمال المخرج الكبير حالة خاصة اقترنت بالجودة والتجديد وكانت بمنزلة تحقيق الدهشة البصرية، والاستحواذ على شغف المتابعة، لكنها قبل هذا كله هي عملية الاختيار الصادق لموقعه في الفن والحياة والوطن.
وتحمل ذكرياتنا الفنية صورة تحلق المشاهدين أمام شاشات التلفزيون الرمضاني وغيره للتمتع بالرومانسية والأعمال التاريخية والفانتازيا قبل أن يتجه إلى محاربة التطرف والإرهاب قبيل الأحداث في سورية ليكون مستشرفاً للحدث قبل وقوعه.
وبدا مع تقديم مسلسل «الحور العين» و«ما ملكت أيمانكم» وغيرهما.. أن نجدت أنزور وقع على ضالته الفكرية، مختاراً تكريس حماسته وجرأته وتعمقه في قضايا المجتمع العربي والسوري الملحة فكان في مرحلته الأخيرة هذه مقاتلاً في طريق لا تراجع عنه.
لقد جعل المخرج المحارب التصدي للتطرف والإرهاب أولوية حظيت بجماهيرية أنزور الفنية لتصل إلى مشاهدها بوضوح وسلاسة وجرأة، وبكل ما أعطاه لها كمخرج من راهنية ووثائقية وصدامية وحرارة نابعة من شجاعة جعلت المواجهة لغة فنية مبتكرة.
رد القضاء
هكذا جاء فيلم «رد القضاء» بعد «فانية وتتبدد» من الخلفية الفنية والفكرية السابقة ساعياً بين الواقعية والوثائقية والاستشراف إلى تقديم نموذج سينمائي جدير بإقامة صلة مباشرة مع جمهور أنزور في زمن الحرب، مع التأكيد هنا أن الجماهيرية عامل إيجابي الآن يساعد على الوصول إلى المواطن في فسحة زمنية قصيرة، متبدلة الأهداف ومتواصلة المعاناة.
يجدد فيلم رد القضاء كنموذج في قضية تصدي أنزور للحرب الإرهابية على سورية تأكيد مفهوم الولاء للوطن ومعنى المواطنة، حيث الوطن أولاً مهما بلغت الظروف الفردية من قسوة لأن ذلك هو طريق الخلاص أو رد القضاء.
وينطلق الفيلم، سيناريو نادية كمال الدين، من حدث حصار سجن حلب المركزي مدة 14 شهراً، ليكون واقعياً ووثائقياً في آن، لكنه لا يكرس أحداثه لتصوير الجماعات المسلحة الإرهابية من الداخل، حيث هي غائبة الشخصيات الدرامية، لكنها حاضرة الأفعال، ويتحرك ضمن هامش عريض للحدث الحصار كي يصبح السجن المحاصر شريحة عرضانية تمثل أغلب فئات المجتمع السوري.
حصار سجن حلب المركزي لقطة ذكية تناسب اتجاه انزور إلى عالم السينما، الكثيف الأحداث المتقاطع الدلالات والمصائر في بؤرة سردية تحركت خطوطها الدرامية كافة معاً لرسم الأبعاد الواقعية والمستوحاة للحصار.. لهذا استطاعت تحقيق طموح فني في مقاربة القضية السورية شاملة، إنها معاناة سورية من الداخل، وحيث تصبح قوى الأمن والجيش بين نارين، نار الحصار داخل السجن، ونار الإرهاب خارجه، ما كان للسوريين كافة أن يصمدوا إلا بعد الوصول إلى قناعات جديدة.. يناقش الفيلم معنى رد القضاء كمفهوم خلاص لسورية، خدمته الأحداث الوثائقية المتصاعدة والأليمة كي يكون واقعاً يسلط الأضواء على حقائق كثيرة، أبرزها أن قدرة السوريين داخل الحصار على رد القضاء اعتمدت على وقوفهم كتلة واحدة بإزاء الإرهاب المسلح، متجاوزة العقبات والمواقف المسبقة والشخصية، منسابة مع التغييرات الداخلية في سجن أصبح بمعنى وطن.
فيلم رد القضاء لا يحرر السجن من حصار الإرهاب، بل يحرر النفوس والمجتمع من سجن المفاهيم والمواقف الفردية، حيث يصبح الوطن هو القضية العليا التي تنتظم تحت لوائها كل شرائح المجتمع السوري، وحيث يكون الفساد وكل من يمارسه عدواً رئيسياً متواطئاً مع العدو الإرهابي الخارجي.
جوهر المواطنة
تصقل معاناة الحصار جوهر المواطنة الحقيقية السورية، وتغير المفاهيم، ويتحول السجناء أصحاب الجنح وعددهم 362 إلى مقاتلين أشداء يدافعون عن الوطن حتى الوصول إلى رد القضاء.
وتطهر المواطنة الحقيقية السجناء من جنحهم، لكنها تغير المفاهيم الاجتماعية في سياق هذا التصدي المتصاعد حتى ذروة التضحية، والتجربة المتواصلة حتى الحقيقة واتساع المواجهة والمسؤولية الوطنية داخل إدارة السجن وخارجها في وزارة الداخلية والجيش والمنظمات والمجتمع الذي يترقب انتهاء الحصار وخروج أبنائه إلى أهلهم منتصرين.
ويستشهد السجناء إلى جانب أفراد الجيش وقوى الأمن، فيبزغ من التجربة نور عدالة إنسانية جديدة، حيث يأمر حاكم السجن بدفن السجناء الشهداء إلى جانب شهداء الجيش وقوى الأمن، وحيث يُغرم أحد أفراد قوى الأمن بسجينة متهمة بقتل زوجها ويقرر الزواج منها بعد تفهمه للظروف الظالمة التي جعلتها ضحية قبل أن تجعلها مجرمة.
حصار السجن المركزي في حلب وبما قدمه رد القضاء من أفكار وحقائق داعياً إلى التغيير الداخلي الخلاق يمثل حصار سورية بكل ظروفها، حقيقة كان لها مراد منها في السياسة حيث أصدر الرئيس بشار الأسد مرسوم عفو عن سجناء الجنح في السجن، بعد ما رسخ صمود السجن تجربة عميقة المفاهيم في الوطنية والمواطنة جديرة بأن تكون قضية استشراف مثل كونها قضية واقعية وثائقية غنية بكل ما يقدم لفيلم سينمائي من تعدد في التفاصيل وصدقية في الحقائق.
شعبية محببة
فيلم رد القضاء في النوع شعبي التوجه مثل عنوانه وهو عبارة شعبية التداول والمفهوم، ليس الأول في حرب أنزور الفنية على الإرهاب الوحشي، وربما لن يكون الأخير، لكنه ترجمة جديدة ونموذج آخر، بعد فانية وتتبدد، لجماهيرية أنزور في السينما بعد التلفزيون..
يرصد المخرج بالتعاون مع المؤسسة العامة للسينما إمكانات إنسانية وتقنية كبيرة لإنجاز مرادف فني لواقع حصار سجن حلب المركزي، ويحشد له شخصيات تمثل أغلب فئات الشعب السوري، ويزجها في نار التجربة حتى الانصهار في مصير جماعي يرد القضاء الذي يظنه الإرهاب المسلح مبرماً للفتك بالمواطن قبل الوطن..
ويحشد الفيلم 100 ممثل وممثلة لتشكيل فريق بحر بشري أسير: يتموج ويندفع يرغي ويزبد، يتصدى ويهاجم، يجوع ويمرض ويستشهد، كل هذا في بطولة جماعية، قادها المخرج أنزور بمهنية عالية، تشبه عفوية وجودها داخل السجن.
ويكتب الفيلم بكل إمكانياته المتاحة، والمستعينة بخبرات من مصر وإيران، أسطورة مقاومة وطنية، بمشاهد بصرية سينمائية رسمت معاناة الأرواح وشجاعة النفوس وتحقق الإرادة الوطنية أخيراً.. بالنصر. هو أسطورة الشهداء ورواية الأحياء، واندفاعة المحارب إلى تحقيق هدفه وسهم المقاتل أنزور في معركة الوطن والإنسانية بسلاح السينما القاطع.
نكتب عن فيلم رد القضاء بعد عرضه في دمشق وأثناء عرضه في بعض المحافظات كنموذج عن جماهيرية تحقق هدفها، الفكري والإنساني والوطني قبل هدف الوصول إلى ضمير المشاهد، عن حالة خاصة لمخرج كبير لا يهدأ، ومحارب لا يستريح يتفاعل معه مشاهده الذي يقبل على أعماله وهو يدرك قيمتها الفنية والنضالية، ويتطلع إلى السير مع أهدافها إلى أمام تدفقها الفني والنضالي..
يقابل هذا لدى أنزور ذلك التجدد في التجربة إضافة إلى الشكل والمضمون اللذين يجعلان جماهيريته تحقق أهدافها في الشراكة السينمائية مع المشاهد لخلق تظاهرة فنية ووطنية.
جماهيرية أنزور وهي تقترن بالجودة، نموذج نادر في عالم الدراما العربية، تأثرت بقسوة الواقع الذي يعيشه الوطن ويواجهه الإنسان، ويسعى للتأثير بها ما أمكن للفنان من قدرة. وهي خصوصية تتجاوز أحياناً إطار العمل الفني في خضم التجربة الوطنية والإبداعية.. وفي لغة السينما إيجازاً وبلاغة تخلق الحراك الفني والوطني المناسب.. وحيث لا تزال الحرب الإرهابية المسلحة تواصل هجومها على الإنسان والأوطان.. فإننا قد نربح جولة ونحن نخسر أخرى، أحد أبطال رد القضاء وقد وعد أمه بالبقاء حياً.. خرج من الحصار ليجدها مقتولة على يد الإرهابيين في قرية الزارة.. لتكون الرواية أيضاً حزينة، كما يقدمها أنزور، ما لم يتحقق رد القضاء كاملاً.. ونهائياً..
الوطن