مثل هؤلاء لن يعتذروا لبوتين
اتابع عن كثب المعركة الإعلامية السياسية الدائرة حاليا بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومقدم البرامج الأمريكي الشهير بيل أوريلي في قناة "فوكس نيوز" اليمينية ذات المواقف المعادية للإسلام والمسلمين من منطلقين الأول شخصي، حيث حللت ضيفا على المستر أوريلي وبرنامجه في ذروة صعود تنظيم "القاعدة" وزعيمه أسامة بن لادن، والثاني سياسي يتعلق بالصداقة الجدلية بين الرئيس الروسي بوتين ونظيره الأمريكي دونالد ترامب، ومدى استمرارها في ظل الحملة الرسمية والإعلامية ضدها.
القصة بدأت عندما استضاف "الزميل" أوريلي (صحافي وكاتب ومؤلف لأكثر من 12 كتابا) الرئيس الأمريكي الجديد يوم الأحد الماضي، وحاول إحراجه بالقول إنه، أي ترامب، يتحدث باحترام عن رئيس قاتل (بوتين)، فرد ساكن البيت الأبيض الجديد بقوله "لدينا الكثير من القتلة. هل تعتقد أن بلدنا بريء؟".
دميتري بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين، أبدى انزعاجه الشديد من هذا "التطاول" على رئيسه، واستخدام هذا التوصيف في الإشارة إليه، وطالب باعتذار واضح لا لبس فيه من المذيع أوريلي ومحطته.
أوريلي قال مازحا في رده أمس على هذا الطلب في مقدمة برنامجه بقوله "يبدو أن إدارة بوتين في موسكو تطالبني أنا مراسلكم المتواضع، بالاعتذار عن القول إن فلاديمير "العجوز" قاتل.. وأعدكم أن أعمل على إعداد هذا الاعتذار لكن ذلك قد يستغرق بعض الوقت، ربما حتى عام 2023".
بيسكوف رد "بأن الكرملين سينتظر ست سنوات للحصول على الاعتذار وسيضبط مفكرته على هذا التاريخ أي عام 2023"، ويبدو أن تبادل اللكمات الكلامية انتهى عند هذا الحد.
في شهر آب (أغسطس) عام 1998 أقدمت مجموعتان انتحاريتان تنتميان الى تنظيم "القاعدة" على تفجير السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام، مما أسفر عن مقتل المئات، ورد الرئيس بيل كلينتون في حينها بإطلاق سبعين صاروخ "كروز" على مواقع للتنظيم في أفغانستان، وثلاثة أخرى على مصنع الشفاء للأدوية في الخرطوم، واتصل بي بعدها بو حفص المصري، حاملا رسالة أراد التنظيم إيصالها الى الرئيس الأمريكي، متوعدا بانتقام "غير مسبوق" لمقتل خمسة من أنصاره من جراء هذا القصف.ونشرتها في حينها، وكانت الرسالة سبقا صحافيا عالميا نقلته وكالات الأنباء، وتصدر العناوين الرئيسية في الصحف ونشرات الأخبار، وتسابقت محطات التلفزة الأمريكية على إجراء مقابلات معي للتعليق على الرسالة، والحديث عن تنظيم "القاعدة" باعتباري كنت من المحظوظين القلائل الذين التقوا زعيم التنظيم في كهوف تورا بورا في قمة سلسلة جبال هندكوش المطلة على جلال آباد.
مراسلة "فوكس نيوز" في لندن الزميلة ايمي كالاك اتصلت بي قائلة إن المذيع أوريلي يريد استضافتي في برنامجه في المحطة، وأعطتني نبذة عن مضيفي بأنه شديد البأس سليط اللسان، يتعمد إحراج ضيوفه، وكرر الشيء نفسه زميل صديق في واشنطن.
أسلوب "الزميل" أوريلي في المقابلات (بات يدرس في بعض كليات الإعلام)، يبدأ بأسئلة ودية ناعمة لطمأنة الضيف، ويترك الضربة القاضية للدقائق أو حتى الثواني الأخيرة من البرنامج، وهذا ما حصل معي، حيث اتهمني بأنني "أروج" للقتلة والديكتاتوريين في صحيفتي السابقة (القدس العربي) ومقابلاتي التلفزيونية، وضرب مثلا بالرئيس العراقي صدام حسين وزعيم تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن، والدليل أنني التقيت الأخير، وأتلقى رسائله بين الحين والآخر.
ردي كان مختصرا، وقلت إنني صحافي مهني، وكوني ألتقي صدام حسين (لم أقابله في حياتي) الذي يمثل أقصى اليسار والعلمانية، وأقابل أسامة بن لادن الذي يمثل أقصى اليمين الإسلامي المتطرف، فهذا يؤكد مهنيتي مثلما يؤكد أنني أقف في الوسط.
احتد المستر أوريلي وقال أنت تروج لأشرطة أسامة بن لادن وتنشرها في صحيفتك، قلت له نعم إنني أنشرها ولا أروج لها، ودعني أسألك سؤالا أجبني عليه بنعم أو لا: هل لو جاء أحدهم بشريط فيديو حديث لزعيم تنظيم "القاعدة" إليك في "فوكس نيوز" ويشكل سبقا صحافيا، هل تأخذه وتبثه أو تقول لحامله "لا شكرا" اذهب إلى قناة "سي ان ان" المنافسة؟.
تلعثم الرجل وارتفع صوته، وسط الحاحي عليه أن يجيبني بنعم أو لا.. وأنهى البرنامج، دون أن يشكرني كما جرت العادة، ولم أسمع منه أو من المحطة منذ ذلك التاريخ!
أروي هذه الواقعة الإعلامية العملية ليس للتعليق على الصدام، أو بالأحرى الملاسنة الكلامية بين "فوكس نيوز" والكرملين فقط، وإنما لشرح آلية عمل بعض وساط الإعلام الأمريكية التي سيطرت، وربما ما زالت على المشهدين الإعلامي والسياسي في العالم، وربما يستفيد منها الإعلاميون الشباب الجدد.
لا أعتقد أن المقدم أوريلي سيعتذر للرئيس بوتين في حياته (مواليد 1949) وحياتنا، فهؤلاء لا يعتذرون لنا أو للروس، إذا ما أخطأوا إلا ما ندر، فالرئيس بوتين يظل قاتلا في نظرهم، أما جورج بوش الابن الذي قتل أكثر من مليون إنسان بريء في العراق، وخلفه باراك أوباما الذي استخدم طائرات "الدرونز" لاغتيال الآلاف في أفغانستان واليمن، فهؤلاء حمامات سلام، ولا نعرف كم بريء سيقتل دونالد ترامب، خاصة إذا مضى قدما في تهديداته بإشعال فتيل حرب جديدة في الشرق الأوسط بذريعة الانتهاكات الإيرانية لقوانين الأمم المتحدة وشروط الاتفاق النووي.