السياسات الاقتصادية خلال الأزمة السورية وانعكاساتها ..بماذا خدمت الفقراء ؟؟
بيّنت عضو جمعية العلوم الاقتصادية الدكتورة رشا سيروب أن الاقتصاديين يواجهون سؤالاً جوهرياً عن كيفية اختيار السياسات الاقتصادية الملائمة لمعالجة المشكلات المترتبة على حالات الصراعات والحروب، حيث يدل الواقع على أن السياسات الاقتصادية المتبعة طوال فترات الحرب على سورية لم تكن السياسات الأكثر ملائمة، بل على العكس إن بعض السياسات والإجراءات كان لها إثر عكسي على الواقع الاقتصادي والمعيشي للمواطن، وذلك نتيجة الفهم المجتزأ للتنمية والتطبيق غير العادل للسياسات الاقتصادية. جاء ذلك في دراسة أعدتها سيروب وقد حصلت «الوطن» على نسخة منها، موضحةً أن السياسات اقتصرت على العمل الإغاثي الذي احتل الأولوية على حساب العمل التنموي وأن ما نعتقده حالياً أنه اقتصاد، هو ليس في الحقيقة إلا اضطراباً في العلاقات الإنتاجية التي لا شكل ولا منطق لها، ولعل هذا الأمر يعزى إلى أن عملية صياغة السياسات في تلك الفترات تستند ضمناً إلى افتراض عدم وجود اقتصاد في فترة الحرب أو أن حالة الاقتصاد في فترة الحرب ما هي إلا حالة اقتصاد يواجه صدمة خارجية سلبية. ومن ثم يمكن القول إن الفهم غير الدقيق لطبيعة الاقتصاد السياسي لحالات الصراعات والحروب يقود إلى تبني سياسة اقتصادية غير ملائمة، ومن ثم أصبحنا بحاجة إلى إعادة النظر بالعلاقات الاقتصادية. وترى سيروب أنه يجب علينا إيجاد إطار لا تحدده علاقات السوق، لأن الشريحة الأكبر من الناس تعتمد اعتماداً كبيراً على العلاقات خارج السوق لتوفير سبل عيشها ومزاولة حياتها، وهو ما يحتم انتهاج مسارات بديلة في التنمية والبدء من نقطة مختلفة ومغايرة تماماً لما كان في السابق، ويتطلب ذلك تغييرات بنيوية في مفاهيم الإنتاج والعمالة، وتحديد أهداف واقعية للنمو، تتوخى استهداف عموم الناس وهو ما يسمى التنمية لمصلحة الفقراء، وأن يكون الإنسان هو الموضوع المحوري للسياسات الاقتصادية من أجل الحفاظ على السلم والأمان الذي يعد شرطاً أساساً لتحقيق التنمية، ويمكن تحقيق هذه التنمية من خلال اتباع سياسات تمييزية تفضيلية لمصلحة هذه الشريحة، حيث أدت الحرب في سورية إلى محدودية الموارد، لكن هذا لا يعني عدم القدرة على وضع سياسات تنموية قابلة للتطبيق، إذ يعرف علم الاقتصاد بأنه العلم الذي يقوم على الاستثمار الأمثل للموارد المتاحة (المحدودة) لتبية الحاجات المتزايدة. منوهةً بضرورة ربط سياسات الاقتصاد الكلي بالأهداف الاجتماعية، واعتبار تحسين نوعية الإنتاج والإنصاف في توزيع الدخل وآلية الاستهلاك مؤشراً على تحقيق التنمية بدلاً من معدل النمو، والعمل على زيادة التراكم الرأسمالي وذلك بالاستثمار المنتج والاستثمار في البنى التحتية من دون وضع زيادة معدلات التضخم عائقاً أمام زيادة الاستثمار، والتركيز على تحسين القوة الشرائية للمواطن أكثر من موضوع انخفاض سعر الصرف، وتقليص الفقر المتعدد وتحسين أوضاع الفئات المهمشة وإن كان على حساب العجز في الموازنة للدولة، إضافة إلى زيادة الإنتاج الذي يغطي الطلب المحلي بدلاً من الإنتاج بهدف التصدير، وإيلاء إمكانية خلق فرص العمل ولو بقيت معدلات النمو منخفضة، مع إعادة توزيع الدخل والثروة «التنمية من الجذور إلى الأعلى» على حساب تركيز الثروة ونظرية التساقط، وإعطاء الأولوية لرأس المال المحلي ورأس المال السوري الذي انتقل إلى خارج سورية. وهنا توضح سيروب أن هذه الإجراءات الحكومية تتطلب اتخاذ سياسات معينة، ففي إطار السياسة المالية يجب اعتماد موازنة موجهة أكثر لمصلحة الفقراء، والنظر إلى مسألة العجز المالي خارج الإطار المحاسبي البحت، من دون تفاقم عدم المساواة، وتوجيهها نحو تخفيض الفجوة بين الأرباح والأجور، والتركيز على الضرائب التصاعدية والضريبة المباشرة، وإلغاء الإعفاءات والتخفيضات الضريبية التي تفقد الخزينة العامة للدولة الكثير من مصادر إيراداتها بحجة جذب الاستثمار وتشجيعه، بل يمكن تشجيع الاستثمار من خلال فرض معدلات ضريبية تمايزية تفضيلية تختلف حسب طبيعة المشروع بحيث تعطى المزايا التفضيلية للمشروعات الصناعية والزراعية. وفي إطار السياسة النقدية، ارتأت سيروب ضرورة تفعيل استخدام أدوات السياسة النقدية التمييزية التفضيلية التي من شأنها توجيه الاستثمار إلى القطاعات الإنتاجية الصناعية والزراعية باعتماد معدلات خصم منخفضة أو قروض ميسرة لمصلحة هذين القطاعين، وإعطاء مزايا وتسهيلات ائتمانية للمشروعات التي تؤدي إلى توليد فرص العمل، وتشغل العمالة المحلية، وتعتمد على مدخلات العملية الإنتاجية على الموارد المحلية، فضلاً عن قدرته على تحقيق قيمة مضافة مرتفعة. أما في إطار التجارة الخارجية فيجب أن تكون التجارة وسيلة لتحقيق التنمية وليست هدفاً، بحيث تفرض الرسوم الجمركية «الكمية والإدارية» على الاستيراد بما يتناسب مع تشجيع الصناعة الوطنية، ودعم التصدير بعد تلبية متطلبات السوق الداخلية من السلع والخدمات، وإعطاء مزايا للسلع ذات القيمة المضافة العالية وعدم تصدير المواد الأولية بشكلها الخام.