الفياض: التراث الحرفي يعكس روح الجماعة وتميز الفرد
تفنن السوريون على مدى العصور بتقديم إبداعاتهم الحرفية بجمالية لافتة نابعة من مخزونهم الثقافي المتمثل بذوقهم الرفيع وأصالتهم المتجسدة بإتقانهم لحرف يعكسون فيها شغفهم بعملهم، وبرع الدمشقيون خاصة بأشغال تبرز هوية دمشق النابضة بالحب والفن والجمال والحياة عبر حرف عديدة بأشكال متنوعة، وتعد حرفة تنزيل الصدف على الخشب وتشكيلاتها الزخرفية إحدى تلك الحرف المتوارثة التي طبعتها دمشق بطابعها الخاص لتغدو منتجاتها «قطعاً من أرواح» حرفييها، وقد فرضت هذه الحرفة نفسها بما تحمله من تراث أصيل ومطوّر عبر مشغولاتها المختلفة الأشكال والأساليب والمدارس في فنون العمارة الحديثة والمستحدثات العصرية في مجال «الديكور» الشرقي الذي يزداد تألقه الحضاري ضمن معايير الفن والحياة..
من هنا استضاف المركز الثقافي العربي – أبو رمانة معرضاً وندوة ثقافية تناول فيها هذه الحرفة وتشكيلاتها، أدارها الباحث محمد فياض الفياض وشارك فيها الحرفيان يحيى الناعمة وسمير عليان وذلك تحت رعاية وزارة الثقافة بالتعاون مابين مديرية الثقافة في دمشق ومديرية التراث الشعبي.
«تشرين» حضرت هذه الفعالية وكان لها لقاء مع الباحث الأستاذ محمد فياض الفياض الذي تحدث عن دور الحرفة في إحياء الذاكرة الشعبية والحفاظ على التراث الشعبي وتعزيز الموروث الأصيل عبر إبداع حرفييها فقال: تعد الحرف التقليدية السورية عموماً والدمشقية خصوصاً غنية بالقيم والمعايير الجمالية وتحمل بين طياتها عبق التاريخ والأصالة والثقافة المتجددة التي صورتها نسيجاً متنوعاً من الإبداعات الحرفية الفنية، ولأن التراث جزء لايتجزأ من ذاكرة الأمة وشخصيتها المميزة فإن الحرفة تسهم في إحياء الذاكرة الشعبية وتثبيت الهوية الوطنية وتعزيز التمسك بالقيم الفكرية والجمالية للمجتمع، كما أنها تلقي الضوء على مفردات ونماذج من التراث الإنساني الذي يختصر تجارب أنتجها التمازج الثقافي والتبادل الحضاري ومن هنا فإن هذه الذاكرة تتسم بأنها ذات طبيعة انتقائية وتمثل أحد الجوانب المعرفية بخصائص الأمة إبداعياً والتي تندرج الحرف اليدوية في سياقها بصفة أن التراث يمثل أحد وجوهها وإبداعاتها الشعبية التي تؤديها شرائح اجتماعية محددة من أصحاب الحرف، ولانغفل هنا أهمية الحرفة في مساهمتها في التنمية الاقتصادية والحضارية والثقافية التي تحققها الحرفة في تأصيلها للتراث والهوية وقد حاول معظم الصناع وأصحاب الحرف المتفردون في صناعاتهم وإبداعاتهم الحفاظ على الأعراف والتقاليد المتوارثة في كل حرفة وحاول قسم منهم أن ينتقلوا بالحرفة من حيث الكم والكيف نقلات نوعية توازي تطور الحياة وصولاً لتغدو هذه الحرفة أحد الوجوه المضيئة والتي تمثل نشاطاً جمالياً إبداعياً في مجال التطور.
ويتابع الباحث الفياض حديثه عن دور الحرفيين أفراداً وجماعات في الحفاظ على التراث الحرفي وتطويره في مجالات مختلفة قائلاً: لاشك في أن الإبداع بمختلف مفرداته وأنواعه هو مرآة البشرية وفيها تعكس حقائق الأشياء ومايحيط بها من معارف خلاقة وتظهر الفن ومايرافقه من تجارب ومهارات وابتكارات، والتراث الحرفي يعبر عن روح الجماعة من دون إغفال دور الفرد وتميزه إلا أنه على غرار كل إبداع بشري يدخل في علاقة جدلية مع البيئة المحيطة يستلهم منها شكله ومضمونه لكنه يضيف إليها أبعاداً جديدة يؤثر فيها ويتأثر بها ويتلون بألوانها ويصبغها بطابعه، إنه إنتاج الإنسان الخلاق ابن بيئته ينبع من ذاته وذاكرته لينتج عالماً متكامل العناصر متناسق الخطوط متناغم الأصوات ولأن العلاقة جدلية بين الفرد والجماعة في عملية إنتاج التراث فإن صفة العظمة حين تلتصق بتراث الأمة تنطبق حتماً على الإنسان الذي أبدع هذا التراث، وحين يدخل التطوير على أي حرفة مع الاحتفاظ بأصالته فهو بقصد الإبداع لذلك أصبح العمل جماعياً في كثير من الحرف والمهن بعد أن كان فردياً، كما أصبح الإنتاج ليس فقط محصوراً بالسوق المحلية بل أصبح مفتوحاً وقابلاً للتسويق والتصدير في الأسواق العربية والأجنبية ما أتاح لأصحاب الحرف التنويع في أساليب التعبير وفي تحسين الأداء والإنتاج ليصبح الإبداع مرافقاً ومواكباً للعمل داعياً إلى تنامي الوعي الجمالي، وأصبح الحرفي الذي يطور ويبدع متحفزاً للمشاركة النفسية والوجدانية مع كل عمل إبداعي جديد يقوم به، وعلى أساس هذا البعد التاريخي والمعرفي لتطور الحرفة الذي يوازي تطور الحياة الاقتصادية والاجتماعية بين البشر.
أما الحرفيان يحيى الناعمة وسمير عليان القائمان بالمعرض المرافق للفعالية فقد حدّثا تشرين عن شغفهما وحبهما للحرفة وهذا ماجعلهما يتعلقان ويستمران في العمل بها وتقديمها بأبهى حلة مع إدخالهما أساليب حديثة ساهمت في تطويرها من حيث الرسوم والأساليب الزخرفية والتشكيلات الفنية فيها ضمن توزيعها الزخرفي الذي يعتمد على أساس هندسي في أغلب الأحيان ينقسم على سطح المشغولات إلى مناطق هندسية منتظمة من دوائر ومثلثات ومعينات ومسدسات وفي بعض الأحيان بيضاوية الأشكال وقد تحوي بداخلها زخارف نباتية محورة عن شكلها الطبيعي كرموز إيحائية، وقد تكون هذه الزخارف مفرغة أو مغلقة لاتفريغ فيها أو محوطة بالحشوات مع احتفاظ تلك المشغولات بأساليبها المتوارثة، وقد تم تطوير بعضها لتناسب فنون العمارة الحديثة..
كما تحدث الحرفيان عن أنواع الأخشاب المستخدمة وتطويعها لمدة أربع سنوات ابتداء من جلبها من غوطة دمشق الشرقية التي تملك أثمن الأخشاب في العالم وهو خشب الجوز الذي تتم سقايته بالماء أو برائق الكلس وتنقيته من الشوائب و«صنفرته» وصولاً إلى تقديم القطعة منه مطعمة بالأصداف والأخشاب والعظام.. وإضافة إلى خشب الجوز هناك خشب الليمون والورد والخشب الإفريقي وغيرها من الأخشاب، إضافة إلى الأصداف ذات الألوان السبعة أو الأصداف البحرية أو النهرية أو الصدف الرهاج وبطرق عديدة مثل الطلس أو العربي أو المشجر.. وكذلك استخدام عظام الحيوانات كالجمل أو ظهر السلاحف أو العظم الصناعي.
معرض وندوة افتقدنا مثيلاتها في الآونة الأخيرة تحدثت بصدق وعفوية عن عمل يحيا بيننا رغم انقضاء السنين، وقد عرف مقدموه كيف يوصلونه إلينا منزّلاً ومحوطاً بخيوط الفضة أو الذهب أو القصدير.. التي دأبوا على عملها بأدوات بسيطة تعلن تفوق هذه الحرفة وتميزها لتطبع دمشق بطابعها الخاص المبدع.