بداية القابضة

رئيس التحرير : عبد الفتاح العوض

رئيس مجلس الإدارة : د. صباح هاشم

من نحن اتصل بنا
أجنحة الشام

عبد الحفيظ السطلي شاهداً على عصر من التحولات الكبرى..

الخميس 02-02-2017 - نشر 8 سنة - 1940 قراءة

هو من جيل الرواد الكبار، غَرَفَ من كنوز المعارف على اتساعها منذ كان يافعاً تحدوه الرغبة العميقة لِجني المعرفة من أزاهير الكتب التي اطّلع عليها في المكتبة الوحيدة في مدينته حمص. عاصرَ شخصيات سياسية صنعت تاريخ سورية كالقائد المؤسس حافظ الأسد، ورجالَ علمٍ كطه حسين وشوقي ضيف، فكان شاهداً على عصرٍ مليء بالتحولات الكبرى كهزيمة الـ67، وحرب تشرين التحريرية التي أعادت للناس إحساسهم بالعزة والكرامة، كما كانت له نشاطاتٌ «سياسية» فاعلة في عدة حركات وأحزاب سوريّة، ثم اصطدم بـ«الإخوان المسلمين» الذين قال فيهم رأياً جريئاً عرّضه لكثير من المضايقات نظراً لشراستهم في فرض آرائهم وعدائهم لكل من يخالفهم الرأي في كل شؤون الحياة

إنه الدكتور عبد الحفيظ السطلي الذي، وفي زيارة بعض أعضاء هيئة تحرير «تشرين» له في منزله، لم يستطع إخفاء دموعه وهو يستعرض لنا وجدانياته وقِطعاً من روحه، خاصة أنّ معظم الذين حدّثنا عنهم غيّبَهم الموت، فيما بقي هو ليخبرنا بالآتي:

كيف ترى طفولتك وبداياتك واهتمامك الباكر في اللسانيات وأنت طفل صغير تذهب إلى المكتبة بشغف كبير؟

••أشرفتُ على أكثر من178 شهادة دكتوراه لطلاب من جامعات سورية وعربية وأجنبية.. أذكر أن الدكتور شوقي ضيف خرّج عشرات الناس وعشرات من أولئك الأساتذة من هنا من سورية، ولكنه حين جاء إلى دمشق وفي ندوة تلفزيونية سئل عن الرواد الكبار في سورية فقال لهم: هناك ثلاثة، واحد هو عبد الكريم الأشتر رحمه الله، والثاني الراحل عمر موسى باشا، والثالث هو عبد الحفيظ السطلي

من هنا أقول: إن اللغة بحاجة إلى اجتهاد وتعب كبيرين، ولا تأتي بين يوم وآخر، بل تحتاج عمراً طويلاً، وأعمال الإنسان يجب أن تجمع بين الأدب واللغة.. كنت في صغري ألبس باكراً جداً قبل شروق الشمس، إذ كان في حمص أربع مدارس فقط، منها «منبع العرفان» مدرستي التي لم تكن وقتها لتفتح باكراً… كنا أسرة فقيرة ولا يوجد في بيتنا ساعة حائطية، ولم تكن لأبي القدرة على أن يزودنا بساعة لكل واحد من أولاده التسعة، كنت أراقب الشمس والظلال على الحائط،  فإن كان نور الشمس على أعلى الحائط فهذا وقت لبس الثياب والتجهّز، وإن مالت إلى مستوى النافذة التي في الجدار فهو الوقت الذي تفتح فيه المكتبة.. بقيت كذلك يومياً فترة طويلة أقلقت والدتي التي كانت تتساءل: إلى أين يذهب هذا الطفل باكراً كل يوم؟!.. ودائماً كنت أصلُ باكراً نظراً لحسابي الزمن بطريقتي، فأجلس عند باب المكتبة الحديدي الخارجي حتى يفتحوا لي.. كنت في الصف الثالث، والمكتبة تفتح ثلاث ساعات قبل الظهر، وثلاثاً بعد الظهر، وكانوا يضعون الكتب في الطابق الثاني، وكلما أردت كتاباً جديداً يتضايق مني أمين المكتبة، و يزداد ضيقاً بي لأنني أريد أن أقرأ في الكتاب الذي بين يدي إلى آخر لحظة من الوقت المسموح، في حين يريد هو أن يعيد الكتب باكراً قبل نصف ساعة.. وكلما طالبني بالإسراع كنت أقول له: ولا ثانية قبل نهاية الوقت المخصص للقراءة، فهذه النصف ساعة لا أجدها متوافرة دائماً!.

أي نوع من الكتب استهواك وأنت في ذاك العمر الصغير؟

••كنت أقرأ ما هب ودبّ، أقلّب في فهرس موجود في مدخل المكتبة كيفما اتفق، إذ لم يكن هناك من يشرف علي أو يساعدني من أهلي، ثم أختار واحداً من بينها، كنت أقلّب صفحات الكتب فأجد بعضها كثير التكرار، وموضوعاته وأسلوبه جافاً غير سلس ككتب طه حسين، ربما لأنه أعمى… لكن حتى لو كان مضمون الكتاب عن «علم الفلك» أو غيره، كنت أبقى اقرأ فيه إلى المساء، فهذا اليوم مخصصٌ لهذا الكتاب مهما يكن جافّاً، لا أقول: إن هذا لا يُقرأ؛ بل أنهل منه ما استطيع أن أفهم، والكتب التي راقتني أكثر هي كتب النحو والمسائل الخلافية بين مدارس البصرة والكوفة في النحو وبين النحاة، وكتب تاريخية قصصية من العالم، إذ كنت معجباً، وحتى الآن، بكتاب عن «جان دارك» المقاتلة الفرنسية التي أحرقها الإنكليز.. لقد أثّرت بي تلك القصة تأثيراً كبيراً، إذ انتهتْ «محررِّةُ فرنسا» نهايةً مأسويةً على يد الإنكليز، وهذا ما يُعد إحدى جرائم الغرب القديمة.

وما الذي قاله أحد أعضاء المجلس البلدي لقريبك الدكتور جمال السطلي عنك حين رآك في المكتبة؟

••هذه من الأمور التي كانت تزعجني، فلم يكن عندي أحد ليشجعني، ومهما كان المرء مندفعاً نحو ما يحبّ فهو بحاجة لمن يأخذ بيده ويدعمه… في المكتبة كانت الطاولات عالية جداً ومنحدرة من الجانبين، وأنا بالكاد أصل بطرف ذقني إلى حرف الطاولة.. كانت المكتبة تابعة للمجلس البلدي في حمص، والدكتور جمال السطلي كان صيدلانياً وعضواً في «حزب الشعب» وأتى مع بقية الأعضاء مرة ليجولوا في المكتبة.. وسمعتهم يتضاحكون ويبرمون حولي، وأنا منهمك في الكتاب، ثم أتاني أحدهم كالصاعقة وسألني: «ما الذي تقرؤه يا عمّو؟، هل تفهم ما تقرؤه؟»، وسألني عدة أسئلة في مضمون الكتاب، فأجبته أجوبة صحيحة، وفجأة صاح للدكتور جمال: يا أبو حسان تعال وشاهد قريبك ما الذي يفعله.. وحينها أتى الدكتور جمال كما أخبرني فيما بعد، وهو يرجف خوفاً من فضيحة ما سأسببها له، لكن سمع زميله يقول له: انظر لقريبك يقرأ في كتاب «البيان والتبيين للجاحظ»، هل يعقل أنه يقرأ ويفهم وهو في هذا العمر؟!، فأجاب الدكتور جمال فخوراً: هذا ما يفعله صغارنا؛ فكيف لو امتحنت كبارنا!. ثم حين التقاني الدكتور جمال قال لي كلاماً جميلاً مشجّعاً.

قلتَ: إن أسلوب الكتابة الجاف عند الدكتور طه حسين لم يَرُقْ لك، وعلمتُ أنه جرى بينكما حديث طريف.. فماذا عنه؟

••لقد تفوقت على أوائل الطلاب في القاهرة، بجملي الفصيحة وجملتي القوية التي لم يستطيعوا الإتيان بمثلها.. أما عن الدكتور طه حسين والدكتور شوقي ضيف فقد كانا يتحدثان بالعامية التي لا تستطيع أن تستوعب الأفكار القوية، ولذلك لم يبرزا في المناقشات العلمية بسبب عاميتهما، أنا كانت محفوظاتي قوية.. ففي طفولتي قيّضَ الله لي الشيخ راغب الجمالي، رحمه الله، ابن خالة والدي، كنا نقول له خالي، أتى إليّ في الصف الخامس قبل أن أنال الشهادة الابتدائية، ليدرّسني اللغة العربية وكتباً لو أردت أن أدرسها اليوم لمرحلة الصف الخامس لعلّقوا مشنقتي لصعوبتها، لكنه كان يقول: «هذه شهادة ابتدائية وليست لعبة… وعما حدث بيني وبين الدكتور طه حسين، فقد أعجب جداً بما فعلته في أحد الأبحاث، إذ قال لي عنه حرفياً: «إنني أعمل على الفكرة نفسها، ولكن سأتوقف عن كتابته لأن كل ما أريد قوله قلته أنت»… للأسف لم يعد عندي أي نسخة من الأبحاث الكثيرة التي ألفتها لأن المسلحين أحرقوا كل شيء بنيته في حمص.

طيب في مناقشة الدكتوراه في مصر ما الذي جرى معك؟

••في الدكتوراه، كان المناقشون هم: الدكتور شوقي ضيف، والدكتور حسين نصار، ودكتور آخر درس النحو في لندن لم أعد أذكر اسمه، وتصوروا ذلك: درس «علم النحو» في لندن بدلاً من دراسة علم الذرة أو غيرها مثلاً، وجاء ليعلمنا!، قال لي وقتها: لديك جملة تقولها خلافاً لما يقوله العرب!، التفتُّ إلى الدكتور شوقي ضيف وقلت له: يا دكتور أنا آسف أن أقول لك أنني أوقفتُ المناقشة، إما أن تأتوني بمعجم لسان العرب الآن، أو لن أكمل!، فقال: لكن هذه جلسة مناقشة، فقلت له: هي مناقشة بالنسبة لك، أما بالنسبة لي فهي جلسة علمية؛ إما أن يكون رأي المناقِش صحيحاً، أو يكون رأي المناقَش هو الصحيح.. وأنا أرى أنه قد أخطأ خطاً مبيناً، ولا يمكن أن تستمر المناقشة بهذه الطريقة، أنا لستُ معيداً هنا، فأمهلني قليلاً.. كان المدرج مملوءاً والجميع جاؤوا ليستمعوا إليّ لمعرفتهم المسبقة بي منذ أيام الماجستير، فقال ضيف: إذا اعتبرنا أن ما قلته هو الصحيح هل نكمل المناقشة؟، أجبت: إذا قلت «اعتبرنا» فهذا معناه أننا في «شكّ» وأنا متأكد مما قلت، وطالما أن لندن هي من علَّمتْهُ النحو، فيجب عليه أن يقول لي ما الذي علمته لندن خلافاً لمدرسة البصرة أو الكوفة.. فشاوروا بعضَهم مرة أخرى وقال ضيف: اتفقنا بالإجماع أنك أنت المحقّ.. وبعد المناقشة كنت متأكداً أن تسعين بالمئة من الموجودين ذهبوا إلى لسان العرب، وكان أولُهم أنا نفسي لأتأكد مما قلت، رغم أنني كنت متيقناً مما فعلت.

ماذا عن تدريسك خارج سورية؟

••درّستُ في جامعة الرباط، وجامعة الحسن الثاني رئيساً لمركز الأدب الجاهلي، وفي الجزائر أيضاً، وجامعة استانبول أستاذاً زائراً، وسافرت إلى الرياض عندما حاربني «الإخوان  المسلمون»، ولم يقبلوني في قسم اللغة العربية، لكنني وجدت حالي في الرياض أسوأ مما كانت عليه هنا.. فعدت إلى دمشق.

في فترات ما من تاريخك كان لك دورٌ وموقف سياسي عرّضاك للعديد من الضغوط.. حدثنا عن ذلك!

••كنت أعلم علم اليقين، كما قال لي ورباني والدي رغم أنه أمّيٌّ لا يقرأ ولا يكتب، أن من منعني من الدخول إلى قسم اللغة العربية هم «إخوان الشياطين» الذين قالوا لي: اذهبْ وجِدْ لنفسك مكاناً غير قسم اللغة العربية، فأجبت من أرسلوه لي لـ«يهدّدني»: المكان موجود، والله لو أكلتُ خبزاً يابساً من الشارع لأهون عليّ من أن يقال عني إنني من «جماعتكم»!. وفعلاً ناصبوني العداء، لذلك تركت الجو الموبوء بأحناشٍ خبيثة، وسافرت خارج البلد. قد تعتقدون أنني أقول لكم ذلك لأنهم انكشفوا اليوم أكثر من ذي قبل، لكن بالفعل هذه هي حقيقتهم من يوم تشكّلهم، والحديث عن سوئهم وإجرامهم يطول.. إذاً، ولنعد إلى العمل السياسي، شكّلتُ كتلة اسمها «الكتلة الوحدوية الشعبية في سورية» أعضاؤها من حمص ودمشق، ثم صار هناك ما يسمى «حركة المحامين الأحرار» انتسبت لهم أنا وكتلتي السابقة، وأصبحت عضواً في لجنتهم المركزية، ثم صارت ثورة الثامن من آذار على الأبواب، وكلفوني في اجتماع اللجنة المركزية بأن أكتب بياناً للشعب، فكتبت بياناً طويلاً من أربع صفحات، طلبوا مني اختصاره لكنني رفضت لقناعتي بكل كلمة كتبتها، ثم أعطوها لشخص غيري لم أعد أذكره، وكنا قد اجتمعنا في أربعة أماكن سرّاً، خوفاً من «خالد العظم» الذي توعّدنا بالاعتقال، وكان أول تلك الأماكن جوار القصر العدلي، ثم في مكان لم أعد أذكره، والثالث في ساحة الشهبندر، ثم تفرقنا خوفاً من أن تمسكنا جماعة العظم، ولحسن حظي أمسكوا من معه التقرير الذي بعد تعرضه للضرب أعطاهم اسمي غير الصحيح، طبعاً كنت طلبت من أهلي (أختي وأمي أن يخفوا كل شي)، وبالفعل لم يتمكنوا من إيجادي أو أي شيء يمتُّ لي من وثائق وأوراق، لأنهم كتبوا اسمي في التقرير «السلطي» بدلاً من «السطلي» وهذا ما ساعدني في أن أرتب أمور رحيلي باتجاه الكويت، وهناك نزلت في فندق كان يعمل فيه صهري، وفي تلك الليلة عملت مشكلة، فقد كان العمال مجتمعين لسبب ما، وحرّضتهم ليحصلوا على حقوقهم، وبالفعل فعلوا ما نصحتهم به، لكنهم اعتقلوا أيضاً، فهربت من الكويت إلى القاهرة، ثم قامت ثورة الثامن من آذار، فاتصلت بجماعتي في حمص وطلبت منهم أن يعيدوني إلى البلد عن طريق الشركة العراقية الوحيدة التي لها رحلات جوية من وإلى سورية، وحين وصلت إلى حمص وجدت بيت العائلة الكبير في حمص، مملوءاً بالناس الذين بدؤوا الاحتفال بعودتي وإطلاق الرصاص… ثم اتصلت بجماعتي وقلت لهم كفانا تفرقة للبلد في حركات سياسية، فأنا أنتمي إلى قواعد «حزب البعث» وسأعود إليه، رغم أنه كانت لديّ ملاحظات كثيرة عليه آنذاك، وملاحظاتي تلك سببت لي عداء بعض المسؤولين فيه الذين طلبوا مني – بعد أن أصبحنا أصحاباً- أن أعود لـ«حزب البعث»، بعد أن كنت تركته وغادرت البلد بسبب مآخذي عليهم، ثم طُلب مني أن نعمل على نشر عدة مقالات في مجلة «جيش الشعب» نعطي فيها أمثلة من التاريخ عن معارك، مثل «القادسية»، تعرّض فيها جيش المسلمين لهزيمة كبيرة لكنه تمكن من استعادة قوته وانتصاراته، وكان القصد من ذلك هو تخطّي نكسة الـ67 في أذهان الناس، ومحاولة استعادة القوة والانتصار الذي تحقق فعلاً في حرب تشرين التحريرية… بعدها عرضوا عليّ أن أنضم للجيش العربي السوري، وقالوا إنهم مستعدون لتسليمي «قيادة التوجيه المعنوي» برتبة مع أقدمية، قلت لهم: أعتذر.. إن هذه الأمور لا تروقني، فأنا رجل علم أحب التدريس في الجامعة التي هي حلم حققته، ولن اتركه!. وحتى بعد ذلك حاولوا وعرضوا عليّ مناصب سياسية وحكومية لكنني رفضت وقلت لهم: الدخول إلى معترك الحياة السياسية جميلٌ لكن الخروج منها صعبٌ جداً، وإنّ معاشرة أهل السلطة محفوفة بالمخاطر، فأي كلمة يمكن أن تُعفيك من منصبك بسهولة، وأنا لا أريد أن «يزعل» مني أحد أو أن «أزعل» من أحد… بقيت على هذه الحال حتى جاءت سفرتي إلى المغرب، التي حاولوا أيضاً أن يثنوني عنها بالكلمة الطيبة طبعاً، إذ عرضوا عليّ أن يعطوني أضعاف راتبي الذي سأكسبه في المغرب، وأن استلم مدير «مدرسة الإعداد الحزبي» في مدينة التل، والتي كانت سياستها قائمة على أن تمتحن رجالات الدولة والقيادات التي ستعيّن في المناصب الحكومية كالوزراء، ولكنني أجبت بأنني سأعتزل العمل السياسي، إلا ما يخدم الناس منه.

نعلم أن لزوجتك الكريمة «أم يحيى» دوراً كبيراً في تشكيل «ذاكرتك» العلمية والحياتية.. كيف تصف ذلك؟

••فعلاً كان لها دور كبير جداً في حياتي، فقد كانت ذاكرتُها ذاكرتي؛ ولا تزال، وما تريدُه أريدُه وأقتنعُ به، فهي من نصحني بأن أترك الجامعة قائلة لي: إنّ منْ بقوا لم يعودوا على قدر مستواك العلمي، وليسوا أهلاً للمناقشات العميقة التي أنت ضليع فيها، ومعظمهم اعتمدوا على الوساطة وليس الكفاءة!.

وهم بالفعل كذلك، في رأيي، لا يصلحون للتدريس في المستوى الابتدائي فكيف في الجامعات!، فالتدريس  يتطلب خبرة، وأن يكون المدرس عالم نفس وتربية قبل أن يكون مختصاً في مواده.. أذكر أول سنة عينت فيها للتدريس في مدرسة بـ«تلكلخ» في حمص طلبوا مني أن أصبح مديراً للمدرسة التي أعلّم فيها، لكنني رفضت، فاستغربوا من رفضي، لكنني قلت لهم: لا أستطيع لأنني أريد أن أتغيّب أسبوعاً من كل شهر، أذهب فيه لإكمال تحصيلي العلمي في مصر، في دبلوم اللغة العربية الذي حصلت فيه على المرتبة الأولى بين طلاب من كل الوطن العربي، رغم أنني شاكستُ الدكتور شوقي ضيف الذي «تضايق» من ملاحظاتي عليهم، إذ قلت له: إنني آتي من دمشق كل شهر لحضور المحاضرات وأنتم لا تحضرون، وهذا أمر غير مقبول، وهو قلة مسؤولية من قبلكم!، فقال لي: وما هي مآخذك علينا غير ذلك؟، قلت له: هذا إضافة إلى أنكم تتكلمون معظم محاضراتكم باللهجة العامية بدلاً من اللغة العربية الراقية؛ فهل يصعبُ عليكم ذلك؟!، فسألني: ومن تقصد؟!، قلت: أنتَ والدكتور طه حسين، فقال: كرمى لك سأتكلم من الآن فصاعداً باللغة العربية الفصحى»، لكنني شعرت بأنه تضايق و«التأم» عليّ!.

نلاحظ يا دكتور أنك وزملاءك كنتم تهربون نحو العلم، اليوم للأسف نرى أجيالاً كاملة تهرب من العلم.. ما السبب في رأيك؟

••عندما يكون الأستاذ جيداً، يكون الطلاب جيدين. لم يعد لدينا معلمون كبار، معلمون كانوا يلحقون العلم من بلد لآخر.

وصفك بعض أصدقائك من المحبين المتابعين لك بأنك «نفحة من الزمن الغابر»، خاصة أنك كنت تفاجئهم بأبيات شعرية نادرة من الشعر القديم  أو أقوال للمعري منها مثلاً: «أوجزَ الدهرُ في المقالة حتى جعل الصمتَ غايةَ الإيجاز…» هل لا يزال لديك ما تقوله -أطال الله في عمرك- أم إنك صرت أمْيل إلى مقولة المعري؟

••كل ما حفظته لن أنساه، المعري والمتنبي هؤلاء العظماء تعلّمت منهم الكثير، وكان الشيخ المرحوم راغب قد علمني أشياء، وأنا فتىً صغير، ستبقى في ذهني وروحي للأبد، عن بشر بن عوانة مثلاً، وقصص خيالية من «مقامات الحريري».. وعندما قرأت للمعري «اللزوميات» و«رسالة الغفران» وأنا في الإعدادية، امتنعت عن أكل اللحوم ومشتقاتها وعذبت أهلي معي، فكل ما كان ملكاً للحيوان (كالبيض الذي نسرقه من الدجاجة التي تريد أن تربّي أفراخاً لها) كل ما هو ملك للحيوان كنت لا أقربه، وبقيت سنة ونصف على هذه الحال يوم ذاك، واليوم ابنتي هي كذلك… بعد ذلك في الصف العاشر أعجب مديرُ مدرستي الثانوية، الذي كان رائعاً خلقاً وعلماً، بما فعلت – وكنت قد صرت رئيساً للفريق الموسيقي وألفت عدة مقطوعات موسيقية، وقيّماً على المكتبة وألقي أشعاراً-  وقال: أريد أن أهديك جائزة مميزة فاختر ما تريد، ما الذي تفضل؟، فقلت له: أريد «ديوان المتنبي» وهو موجود بأجزائه الأربعة في المكتبة، فقال لي اجلبه وسأوقعه لك كإهداء تستحقه!. وتكريماً له، رحمة الله عليه، حفظت الديوان كاملاً في حديقة بيتنا في حمص.

يوم توفي والدك، ما الذي فعلته أو فكرت فيه.. حدثنا عن ذلك!

••كنت طالباً في الجامعة..سافرت إلى حمص والدنيا تثلج بشدّة.. نمت إلى جواره، وقلت له: احجز لي مكاناً  بقربك فإني سألحقك عمّا قريب يا أبي…  يومها كنت أفكر بالموت بغير طريقة.. اليوم لدي الفكرة التالية: الموت حقّ ولا بد منه، ومادمت حيّاً فلا داعي للخوف من الموت، وعندما أموت لن أكون موجوداً لأخاف منه!.

وما الذي تفكر فيه اليوم؟

••أفكر بأنني لم أعش ذليلاً لأحد، ولا خضعت لأحد، لا هنا ولا في القاهرة، رغم وجود الأشدّاء من حولي علماً وقدراً ومنصباً… أفتخر أنني عشت حرّاً و«شاكست» حتى دكاترتي الذين اعتبروا من المدرسين الأقوياء مثل سعيد الأفغاني الذي ألغى مرة جلسة امتحان شفهي للذكور، واستبدلها بجلسة للإناث، فاقتحمت القاعة التي يمتحن فيها زميلاتي، وقلت له: أريد دوري في الامتحان، فقبل على مضض، وحاول أن «يعجّزني» بأسئلة صعبة من مجمل المادة المطلوبة، لكنني أجبته عن كل شيء، فقال لي: وما الذي تريد أن أسألك بعد كل هذا؟، قلت له: أي سؤال إشكالي يستأهل المناقشة، فسألني وأجبته بشكل صحيح أثنى عليه الدكتور المرحوم صبحي الصالح الذي حضر الجلسة، إذ كان قانون الجامعة يقضي بأن يحضر دكتور إضافي إلى جوار الدكتور الذي يمتحن طالباً لديه مشكلة مع دكتور المادة الذي يجري له الفحص.

تشرين


أخبار ذات صلة

تأثير التعليم على الفيزيولوجيا

تأثير التعليم على الفيزيولوجيا

إشراف.. الأستاذ الدكتور رشاد محمد ثابت مراد

المايسترو ميساك باغبودريان:

المايسترو ميساك باغبودريان:

من المحزن عدم وجود أي برنامج يتحدث عن الموسيقا في قنواتنا التلفزيونية