أرقام «مصرفية» تقرؤها للمرة الأولى
أوقفت المصارف العاملة في سورية نشاطها الإقراضي مع بداية الربع الثاني للعام 2012، وذلك تنفيذاً لقرار السلطات النقدية، من أجل الحفاظ على السيولة في المصارف، وعلى ما يبدو، الحدّ من عمليات المضاربة وتحويل المدخرات بالليرة إلى دولار أميركي، والتي كانت حديثة وقتها.
بعد ذلك، ظهرت إلى السطح، مجدداً، مشكلة القروض المتعثرة في المصارف، وهي مشكلة قديمة، وانشغلت الأوساط المختصة باستصدار تشريعات وتعديلات لمعالجة المشكلة، ولا تزال مستمرة على السياق نفسه. وهو ما نسجل عليه الكثير من الملاحظات، إن كان من جهة آلية المعالجة، أو من جهة تفعيل الإنتاج. وهذا ما سنتحدث عنه بعد عرض صورة لحجم خسارة الدولة في هذا الملف، بالأرقام، ومن ثم التحليل.
صورة «إيكو» للخسارة
قدّرت المصارف العامة في سورية إجمالي القروض المتعثرة فيها بنحو 145 مليار ليرة سورية. وهي بأغلبها قبل عام 2012، تاريخ إيقاف القروض، إن لم يكن قبل ذلك بفترة زمنية ليست قصيرة، نسبياً.
وبتحويل القيمة إلى الدولار (يعادل 50 ل.س)، نكون أمام نحو 2.9 مليار دولار أميركي، كإجمالي للقروض المتعثرة. ولو اعتمدنا الوسطي بعد ارتفاع الدولار إلى 70 ل.س في آذار 2012، تكون القيمة الإجمالية نحو 2.41 مليار دولار أميركي (وهو الرقم الذي سوف نعتمد عليه في حساباتنا)، لتنخفض القيمة إلى دون المليار دولار مع صدور أول مرسوم للجدولة في أوائل عام 2014، حيث سجل الدولار وسطياً نحو 170 ليرة في ذلك الوقت، وتستمر الخسارة وصولاً إلى نحو 281.5 مليون دولار حالياً، بعد استقرار الدولار قرب 515 ل.س. ما يعني أن الخسارة التي تحمّل للحكومة في ملف القروض المتعثرة اليوم (جراء انخفاض سعر الصرف) تزيد على 2.13 مليار دولار أميركي، من دون احتساب الفوائد وغرامات التأخير، وهذا الرقم يشكل نحو 88% من إجمالي قيمة القروض المتعثرة بالدولار وقت إيقاف القروض في 2012.
للتخفيف من الخسارة، أضافت المصارف فوائد وغرامات تأخير على القروض المتعثرة، فارتفع المبلغ المطلوب تحصيله، حالياً، من 281.5 مليون دولار، إلى 485.4 مليون دولار، بزيادة نحو 204 ملايين دولار، وهو يمثل مبلغ التعويض، الذي يشكل أقل من 8.5% من إجمالي قيمة القروض المتعثرة وقت إيقاف القروض. بهذا الشكل تخف خسارة الحكومة في ملف القروض المتعثرة في حال قررت تحصيل أصول المبالغ مع فوائد وغرامات التأخير، لتصل إلى نحو 1.93 مليار دولار أميركي (يمثل 80% تقريباً من قيمة إجمالي القروض المتعثرة بالدولار وقت إيقاف القروض في 2012)، وهو مبلغ كفيل بتمويل 37.4% من الإنفاق الحكومي المقدر في موازنة العام الجاري 2017.
من الجانب الآخر، لنتخيل كم ربح الصناعي الذي اقترض من الحكومة ملياري ليرة سورية في عام 2010، بعد تعثره المقصود (اختلاسه من أموال المودعين).
المبلغ كان نحو 40 مليون دولار أميركي، حيث كان الدولار بأقل من 50 ليرة، فأصبح اليوم بنحو 3.88 ملايين دولار أميركي فقط، وفي حال قرر تسديد القرض اليوم، يكون حقق ربحاً بنحو 36.12 مليون دولار أميركي، أي أكثر من 18.6 مليار ليرة سورية، وهو 9.3 أضعاف مبلغ قرضه الأصلي، وذلك من دون الفوائد والغرامات. وبعد إضافتها تقل الأرقام، لكنها تبقى من رتبة فلكية.
وجهة نظر
من المؤكد، أن عدداً ليس قليلاً من الصناعيين، تعثروا بفعل تداعيات الحرب، وهو أمر واقع، فخسروا منشآتهم، كلياً، أو جزئياً.لكن في المقابل هناك عدد آخر من الصناعيين غير المتعثرين في الحقيقة، بل هم متهربون من دفع التزاماتهم للمصارف، بانتظار التغيرات على سعر الصرف، التي من شأنها تخفيض حجم المبلغ المطلوب دفعه لتسديد القروض بالدولار، وخاصة أن الأغلبية الساحقة من الصناعيين والتجار يستخدمون الدولار في ممارسة أعمالهم.
ومن المؤكد أيضاً، ضرورة استرداد القروض المتعثرة، لأنها تشكل أموال المودعين، الذين قبلوا الخسارة على ألا يسحبوا إيداعاتهم من المصارف، ولضمان حقوقهم، يتم ضمان هذه الإيداعات برأسمال المصارف الذي تملكه الحكومة في النهاية.
لذا، حريّ بالحكومة الحرص على هذه الأموال، وتحصيل حقوق المودعين، وحقوقها، من دون خسارة، والتفكير بوسائل أخرى لدعم الصناعة والإنتاج، من دون تشجيع نمط للاعتماد على القروض كوسيلة سهلة لتأمين الأموال، وتحقيق الربح من خلالها، من دون تدوير عجلة الإنتاج.
وهنا لا بد من تصنيف الصناعيين، ومعاملتهم على أساس كل صنف.فالمختلس يحصل كامل القروض بالقيمة الحالية للدولار، والمتضرر كلياً يتم النظر بوضع جدولة قرضه مع إعفاءات، والمتضرر جزئياً، يكون له معالجة مختلفة كلياً.
وهنا نقترح على الحكومة إلقاء نظرة خارج صندوقها، لإبداع حلول أخرى، كأن تخصص فريق عمل، مهمته التنسيق بين الصناعيين المتضررين، الراغبين بالعودة إلى العمل، وبين أصحاب المدخرات، وتشجيع إقامة شراكات حقيقية بين رأس المال والصناعي، من دون وساطة المصارف، وفق آليات ورقابة يمكن تحديدها فنياً بسهولة.
مع التأكيد على أن قروض الصناعيين تشكل نسبة، قد تكون الكبرى، من القروض المتعثرة، لكن هناك تجاراً حصلوا على تسهيلات ولم يسددوها، بذريعة الأزمة، وهنا يجدر بالحكومة التفريق بين الصناعي المقترض المتعثر والتاجر الذي لم يسدد تسهيلاته من أجل الربح من تغير أسعار الصرف وتراجع قيمة قرضه بالدولار.
وعلى هذا المنوال، يمكن التفكير باتجاه إيجاد حلول غير تقليدية، لتقليص خسارة القطاع المصرفي، من جهة، ولترسيخ مبدأ ثابت في عالم الأعمال، بأن الأموال العامة مصونة ولا يمكن اختلاسها بسهولة. وهنا سوف يتكشف للحكومة حجم الفساد المختبئ في «مجارير» العمل المصرفي العام تحديداً.
"الوطن"