رشاد كامل يكتب لصاحبة الجلالة في دراسة البيان رقم واحد للعام 2025
خطاب مؤتمر النصر للثورة السورية عملياً تم اعتباره " البيان رقم واحد" للثورة السورية، ولكنه البيان رقم واحد للإطاحة لا برئيس فر من البلاد مع نظامه المنهار وانما كان بيان رقم واحد ضد كل مفاعيل 8 آذار عام 1963.
الصراع على سوريا لم يتوقف لحظة منذ أن دخلها الرئيس عبد الناصر في شباط 1958 و بدء موجة التأميم عام 1961، والتي انقلب عليها السوريين في انفصال، انقلب عليه البعث في 8 آذار 1963، ذلك الانقلاب البعثي لم يعيد الوحدة مع مصر وانما ثبت مكاسب التأميم المفروض أنها كانت للدولة والمجتمع .. لصالحه في قيادة المجتمع والدوله.
61 سنة استلم فيها العسكر الريفي البلاد وبمباركة من أمريكا حسب ما تسرب من وثائق الكونغرس من عشر سنوات ضمن سياساتهم لمواجهة المد الشيوعي في العالم ومنها سوريا، البعثيون الصغار بالعمر والرتب والخبرات، والمحملين بشحن انقلابي ضد كل ماهو مستقر في المدينة قلبوا كيان سوريا التجاري والاقتصادي الذي كان مستمراً من 400 سنة سابقة مع العثمانيين وبالكامل، ولم يكن هناك من يشفق على تلك المكونات السورية واطلق عليها لقب شيئها وهو "الرجعية ".
في اليوم التالي فقط على نجاح انقلاب 8 آذار في سوريا تمَّ تأسيس ما سُمِّيَ " المجلس الوطني لقيادة الثورة " كهيئة تشريعيّة وتنفيذيّة تشكّل نواة لقيادة مؤقّتة للبلاد في " المرحلة الإنتقاليّة"، على أن يتألّف نصفه من البعثيين والنصف الآخر من بقيّة المشاركين، وانعكس الأمر على الوزارة التي شكلت بعدها أيضاً، وضمّ المجلس الأوّل في عضويّته خليطاً من العسكريين والمدنيين برئاسة الفريق لؤي الأتاسي، الذي كان من الناصريين المعتقلين على ذمة قضية محاولة انقلاب عبد الكريم النحلاوي، إلا أنَّ الانقلابيين أفرجوا عنه، وعينوه رئيساً للمجلس وللدولة تقديراً لمكانته في الجيش. وكذا نجد العميد زياد الحريري من القوميين العرب أو ما كانوا يعرفون باسم "الجبهة العربية المتحدة". إلى جانب عدد من الضباط البعثيين أمثال صلاح جديد، فهد الشاعر، محمد عمران، سليم حاطوم كأعضاء مؤسِّسين. أما أمين الحافظ فقد انضمَّ إليهم فيما بعد. ومن المدنيين نذكر ميشيل عفلق، صلاح اللدين البيطار، شبلي العيسمي، منصور الأطرش وحمود الشوفي وجميعهم من البعثيين.
القرارات التي صدرت من المجلس الوطني لقيادة الثورة عام 1963 كانت كافية للقضاء على وجود تاريخي لقوى مالية وإعلامية ودينية تقليدية في سوريا من تجار وصناعيين وملاك وعائلات بأكملها.
تلك القرارات والتي سأسرد فقط اول 12 منها شملت قطاعات التأميم، الإغلاق السياسي، وتصفية التعددية الإعلامية.. لا اظن انه من الضروري التعمق أكثر بعدها..
أولاً: قرارات التأميم الاقتصادي (تموز–آب 1963)
تأميم المصارف الخاصة وشمل جميع البنوك الخاصة والعربية والأجنبية، وبدلا عنها تم انشاء "المصرف التجاري السوري.
تأميم شركات التأمين الخاصة و مصادرة جميع شركات التأمين وتحويلها إلى مؤسسة حكومية.
تأميم شركات النقل البحري والبري وضم شركات الشحن والمواصلات إلى الدولة.
تأميم شركات وصناعات النسيج والغزل وخاصة في حلب ودمشق، وهي من ركائز الصناعة السورية آنذاك.
تأميم معامل الإسمنت والسكر والتبغ وضم شركات حيوية تعتمد عليها مشاريع الدولة والبنية التحتية.
تأميم الصناعات الغذائية والزيوت والألبان وكانت تلك خطوة نحو احتكار الدولة للغذاء والتحكم بالأسواق.
تأميم قطاع الكهرباء والطاقة والسيطرة على محطات التوليد والتوزيع.
تأميم التجارة الخارجية (الاستيراد والتصدير) وإنهاء القطاع التجاري الخاص وتحويله إلى مؤسسات حكومية.
أما في المجال السياسي فالقرارات التي شملت الإغلاق السياسي والإعلامي (آذار–نيسان 1963) فكانت كالتالي:
حل البرلمان وتعليق العمل بالدستور وإعلان الحكم الاستثنائي عبر مجلس قيادة الثورة.
حل جميع الأحزاب السياسية باستثناء حزب البعث الذي أصبح الحزب الحاكم الوحيد لاحقًا، في توجهه نحو نظام الحزب الواحد.
إغلاق الصحف الحزبية والمستقلة حيث تم إغلاق العشرات من الصحف والمجلات السياسية والثقافية واستُبدلت بـ "الصحافة التعبوية الرسمية" مثل صحيفة البعث.
إعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفية (9 آذار 1963) والتي استمرت قانونيًا أكثر من 48 سنة حتى 2011، وشكلت الأساس القانوني لحكم الأمن والمخابرات.
وهذه القرارات غيرت سورية الى تاريخ الإطاحة ببشار الأسد، ولم تكن تلك القرارات مجرد إصلاحات، بل كانت ثورة بنيوية قلبت شكل الدولة والمجتمع، فهي أدت إلى نهاية الحياة البرلمانية والتعددية السياسية، واحتكار الدولة للاقتصاد والإعلام وتمكين الأجهزة الأمنية والعسكرية من إدارة الدولة.
تألمت عائلات بأكملها والكثير منها فقد أمواله وبيوته واراضيه، ومعظمهم هاجر وترك سورية واسس في بيروت وعمان وأوروبا.
ولكن السوريين من كانوا شباباً ومتحمسين لزمانهم ومنهم اهالينا، اعتبروا ثورة البعث خطوات ضرورية لبناء الدولة التقدمية والتي كانت حلماً عاماً للدول المتحررة حديثاً والذي كان اجتاح أمريكا الجنوبية وافريقيا واسيا ومنها سوريا طبعاً ، ولم نكن وحدنا في هذه التجربة عربياً سبقتنا العراق بشهر ولحقتنا الكثير من الدول العربية خلال السنوات العشر التي تلت تلك الموجة.
وأهم جزء من تلك الثورة كان الشق التبريري لكل عمليات نقل المال والسلطة عبر محاربة الرجعية.
الرجعية التي سجن ولوحق بتهمتها الكثير من السوريين وصودرت بتهمتها الكثير من الأملاك .
وان كانت أجيال من ولدوا من ذاك الزمان الى اليوم نسوا ما اقترفه اباء البعث وضباطه الصغار في سوريا ولم يربطوه بما يحدث اليوم فمن المناسب يعيدوا قراءة ما يحدث على أنه إعادة لعقارب الساعة السورية الى ماقبل 8 آذار 1963.
اليوم هناك عهد جديد ، عملياً استطيع ان أقول أنه التيار العكوس لمفاعيل تلك القرارت التي ظهرت من 61 سنة، وعكس القرارت هو عملياً إعادة الحقوق لأصحابها، وتسليم الأموال المصادرة سابقا، وإعادة الاستملاكات، اغلاق منافذ الترزق العلقية التي انتجها النظام السابق، من كبيرها الى صغيرها أي من الشركات الكبرى الى الموظف الذي تم تعينه بمعية قربه من السلطة السابقة، والأهم هو اجراء محاسبة للثراء الذي تم على حساب السوريين من قبل من ركب موجة البعث وبعدها نظام الأسد الأب والأبن.
إذا ما يحدث الآن من عكس للقرارات، حدث سابقاً، ولكن من المنطقي ان ننساه بعد ستين سنة، فهناك من ولد ولا يعرف ما هو البيان رقم واحد، وتصور أن الأمور للأبد. لكن هي ليست كذلك، وخاصة ان لا النظام السابق ولا من التصق به من كتل بشرية مستفيدة من كل الطوائف جهزت نفسها للتسوية الكبرى القادمة ولم تقبلها .. لا بل أعلنت عليها الحرب من يوم 18 آذار2011.
التسوية التاريخية التي رفضها البعث هي ورفضها الأسد الاب ورفضها الأسد الابن، اليوم يطلبونها.. فماهي كانت التسوية التاريخية التي طلبها السوريين منذ العام 1963، ولماذا من المهم أن نعود اليها اليوم.
فقط لو افترضنا أن سوريا تجنّبت انقلاب البعث أو سارت في مسار ديمقراطي بديل، فإن هناك عدة متطلبات كان يمكن أن تُشكل تسوية ناجحة تحفظ الدولة وتجنب الانفجار لاحقًا:
أولها :
تعزيز النظام البرلماني الديمقراطي (كما كان في الخمسينات):
• سوريا ما قبل 1963 كانت تتمتع بتجربة ديمقراطية ناشئة، مع تداول سلمي للسلطة وتعددية حزبية، رغم كثرة الانقلابات العسكرية.
• كان من الممكن إصلاح الجيش وإبعاده عن السياسة، مع الحفاظ على مؤسسات الدولة المدنية.
ترسيخ مبدأ الحياد الأيديولوجي للدولة:
• كان البعث يطرح مشروعًا أيديولوجيًا وحدويًا اشتراكيًا، لكنه عمليًا فرض عقيدة فوق المجتمع.
• تسوية تاريخية كانت تقتضي بناء دولة غير مؤدلجة، تفصل بين الحزب والدولة.
حماية التنوع الاجتماعي والثقافي:
• البعث رفع شعار القومية العربية، وأقصى المكونات غير العربية (خصوصًا الأكراد) مما خلق أزمة هوية.
• تسوية تاريخية كانت تقتضي الاعتراف بالتعدد القومي والديني والثقافي، وبناء وطن لكل السوريين.
بناء جيش وطني لا حزبي ولا طائفي:
• بعد 1963، تم "بعثنة" الجيش وتهميش الضباط المستقلين، مما مهد لهيمنة أمنية وطائفية لاحقة.
• كان يمكن بناء مؤسسة عسكرية مهنية، تخضع للسلطة المدنية وتعبّر عن كامل مكونات الشعب.
إصلاح زراعي واقتصادي متوازن:
• البعث طبق إصلاحات اشتراكية جذريّة صادرت الأراضي وغيّرت التركيبة الطبقية بسرعة، ما خلق قطيعة بين الدولة والطبقات التقليدية.
• تسوية عقلانية كانت تقضي بإصلاح تدريجي متوازن لا يؤدي إلى قطيعة اجتماعية.
اليست هي نفسها التسوية التي يطلبها كل من لا يقبل بهزيمته التاريخية من قبل الثورة السورية اليوم؟
نعلم أنه نظام الاسدين لم يكونوا جاهزين للتسوية التاريخية والتي على فكرة نبه لها كل الخبراء في سورية ومنذ العام 2000 وتوسلوا للنظام تطبيق أي إصلاحات لتفادي انزلاق سوريا للحرب الاهلية...
ولكنهم رفضوا ... رفضوها كرئاسة وكأمن و مجموعات بشرية مستفيدة من هذا الوضع المهيمن .
و الآن .. تطالب نفس تلك الكتل الرافضة للتسوية التاريخية في أيام البعث والاسدين، يطالبون العهد الجديد بالتسوية التاريخية..
هم في حالة استنفار من يوم تحرير حلب وبشكل تصاعدي،
والتحدي الكبير أمام السوريين في عهد استقلالهم الثاني، ليس إرضاء تلك الكتل لأنها لن ترضى، وانما التحدي هو انجاز التسوية التاريخية التي افتقدتها سورية على مدار 61 عاماً.
و الى ان تتخامد آخر محاولات كتل العهد السابق في فرض تقسيم وحرب ومواجهات لأخذ ما تعتقده حقوقها التي فقدوها، والى أن تُسلم أننا اليوم في 7 آذار، لا في 8 آذار، 1963، والى أن تبدأ العمل على إعادة ما استلمته او عفشته من عهدة من زمانها السابق الى الشعب السوري والى القيادة الجديدة وبهدوء، والاقرار بانتصار الثورة كأول خطة للتسوية التاريخية السلمية التي نتطلع اليها.
لا انتقال سهل ، اليوم في سورية ،
هناك من يشكر ربه انه عاش وشاهد نصرها،
وهناك من يلعن أنه عاش وشاهد هزيمة مشروعه السابق فيها.
سوريا التي يريدها غالبية السوريين ، فهي مشروع ديمقراطي، وأحلام السوريين فيها التنافس حزبياً لا عسكرياً، والتنافس على أصوات السوريين والسوريات، لا الحلم ببيان رقم واحد جديد.
اذا عملنا معناً ... سنعبر
رشاد أنور كامل
نيسان 2025
صاحبة الجلالة - الاحتياطية